بريطانيا تتسلح.. الحنين إلى الإمبراطورية! بقلم/ سميح صعب

225

ابين اليوم – بقلم/ سميح صعب

من دون سابق إنذار، قررت بريطانيا، في 16 آذار/ مارس الجاري، زيادة الرؤوس النووية في ترسانتها الحربية من 180 إلى 260 رأساً، وذلك للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة قبل 30 عاماً. وبعد أقل من أسبوع، أعلنت المملكة عن عزمها نشر مزيد من السفن والجنود حول العالم في سياق “عقيدة” دفاعية جديدة.

لا تعوز رئيس الوزراء البريطاني المحافظ بوريس جونسون المبررات لرفع الإنفاق الدفاعي، والبحث عن دور عسكري خارج الحدود بغية “الحفاظ على أمن بريطانيا في بيئة عالمية محفوفة أكثر بالمخاطر، وفي مواجهة تهديدات تكنولوجية جديدة”. وهو لا ينسى أن يذكر في الوثيقة التي أطلق عليها “المراجعة الإندماجية للسياسة الدفاعية والأمنية والخارجية”، بأن روسيا في ظل قيادة فلاديمير بوتين تشكل “تهديدا ناشطاً”، بينما وصف الصين بأنها بمثابة “تحدٍ ممنهج”، وعليه، اختار المحيط الهادىء مهمة أولى لحاملة الطائرات البريطانية “الملكة أليزابيث” التي إكتمل بناؤها للتو، كـ”رسالة ردع” للصين، وفق تعبير صحيفة “الغارديان” البريطانية. أهمية الرؤوس النووية البريطانية، تكمن في أن القوة التدميرية للرأس الوحد تبلغ 100 كيلوطن (القوة التدميرية لقنبلة هيروشيما كانت 15 الف كيلوطن). ليس هذا فحسب، بل أن هذه الرؤوس تركب على صواريخ من طراز “ترايدنت2” وتُجهز بها غواصات من فئة “فانغارد”. وتالياً من الممكن أن تتحول الرؤوس الحربية البريطانية إلى قوة ردع متنقلة عبر البحار والمحيطات. وبالمناسبة، إذا رفعت بريطانيا عدد رؤوسها النووية إلى 260، كما ورد في المراجعة الدفاعية، فإنها لا تعود بعيدة عن الصين التي تملك 350 رأساً نووياً. وفي أول هيكلة للجيش البريطاني بعد مضي عام على خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، تتعهد الوثيقة بانفاق عشرات مليارات الجنيهات على تحديث الصناعات العسكرية، بما فيها التكنولوجيا السيبرانية وصناعات الفضاء والذكاء الإصطناعي، فضلاً عن تعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول رابطة جنوب شرق آسيا “آسيان”، في ما سمته “الإستدارة” نحو منطقة المحيطين الهندي والهادىء. وللتشديد على أهمية هذه المنطقة، قال جونسون إن زيارته الخارجية الأولى ستكون إلى الهند. التركيز البريطاني على آسيا، سرعان ما يعيد إلى الأذهان الماضي الإستعماري للمملكة المتحدة في هذه المنطقة، التي كانت هونغ كونغ آخر جيب رئيسي يخرج منه التاج البريطاني عام 1997. لكن يبدو أن جونسون يبني على هذا الماضي لإستعادة مجد مفقود، وإلا ما معنى التسهيلات التي منحتها لندن لسكان هونغ كونغ الراغبين بالهجرة إلى بريطانيا، خصوصاً بعد قرار بكين تطبيق قانون القومية على الجزيرة.

منذ الخروج من الإتحاد الأوروبي، أطلق جونسون سياسة سماها “بريطانيا العالمية”، وكأنها رد على “بريطانيا الأوروبية”، التي بنى جونسون مسيرته السياسية على تدميرها، ونجح. “العالمية”، التي يبحث عنها جونسون تستوجب عقيدة عسكرية جديدة تحمي خطوط التجارة البريطانية وكأننا في القرن التاسع عشر، لا تزال الروح البريطانية هي هي، والأحلام الإمبراطورية تداعب مخيلة السياسيين البريطانيين مجدداً. ولذلك، يسير جونسون اليوم بطريق معاكس لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية. وبينما تمد الصين نفوذها إلى العالم البعيد، يسعى جونسون إلى الذهاب إلى محيط الصين، لاستعادة النفوذ الغابر، وما أشبهه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يتتبع منذ سنوات خطوط الإمبراطورية العثمانية في الشرق، بعد أن أدار الظهر لأوروبا، وها هو جونسون (وللمفارقة يقال أنه يتحدر من أصول تركية)، يدير الظهر لأوروبا ويقتفي الأثر الإستعماري لبريطانيا العظمى. وهل كان مصادفة أن اول اتفاق للتجارة الحرة بعد سريان بريكست وقعته لندن مع تركيا؟ وبعد بريكست، يحاول جونسون بكل قوة تقديم بلاده على أنها القوة الثانية في الغرب بعد الولايات المتحدة، ويسعى إلى حجز مكان في خريطة العالم، وسط التنافس الأميركي – الصيني المحتدم. ويأخذ جونسون، المحاصر بالانتقادات داخلياً على سوء أدائه في مواجهة وباء كورونا، على عاتقه مهمة أن يثبت لمواطنيه أن مكانة بريطانيا قد زادت عقب خروجها من الإتحاد الأوروبي وليس العكس. ولهذه الغاية، يكثف رئيس الوزراء جهوده لإبرام اتفاقات تجارية مع أكبر عدد من الدول، ولا سيما الولايات المتحدة، لتعويض بريطانيا ما خسرته اقتصادياً بخروجها من التكتل. وفي الوقت نفسه، يسعى إلى تنكب دور سياسي موازٍ أو متقدم أحياناً على دور الاتحاد الأوروبي. وعلى سبيل المثال، كان لافتاً للإنتباه أن تتهم بكين الحكومة البريطانية، بالتحديد، بقيادة حملة التحريض الغربية على الصين في مسألة الإيغور، والتي تسببت بعقوبات متبادلة بين الصين من جهة والاتحاد الاوروبي وبريطانيا من جهة ثانية. وكذلك سبقت بريطانيا الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات على روسيا على خلفية قضية المعارض الروسي أليكسي نافالني. ويعتقد جونسون أنه أدرى من أميركا بـ”شعاب” الصين وروسيا. الدور السياسي والعسكري الجديد الذي رسمه جونسون لبريطانيا في العالم، يحمل من الأعباء والأكلاف، ربما اكثر مما يحمل من الآمال في عالم لم يعد يشبه ذاك الذي لم تكن تغرب فيه الشمس عن حدود الإمبراطورية. تلك الإمبراطورية، وصفها الصحافي الأميركي من أصل هندي فريد زكريا في كتابه “ما بعد أميركا” قائلاً :”في 22 حزيران/ يونيو 1897، أخذ نحو 400 مليون إنسان حول العالم – ربع عدد سكان المعمورة – عطلة. لأن ذلك اليوم كان يصادف الذكرى السنوية الستين لتربع الملكة فكتوريا على عرش بريطانيا. استمر الاحتفال في مناسبة اليوبيل الماسي خمسة أيام على البر وفي البحر، لكن الاستعراض العسكري واحتفال ذكرى الشكر في 22 حزيران/ يونيو شكلا ذروته”. ويضيف أن 50 ألف جندي من مختلف المستعمرات البريطانية شاركوا في عرض عسكري بالمناسبة وأن أحد المؤرخين وصف الحدث بأنه “لحظة رومانية”. وعلى رغم ذلك، طويت صفحة الإمبراطورية البريطانية في ما بعد، وورثتها قوى أخرى صاعدة بينها الولايات المتحدة تنافسها اليوم الصين على زعامة العالم. من المشكوك فيه أن يكون جونسون قد قرأ التاريخ بعناية!