من صنعاء إلى الرياض.. رسالة بحجم عمليّة توازن الردع السّادسة بقلم/ محمد السادة

384

ابين اليوم – بقلم / محمد السادة

عمليّة توازن الردع السّادسة هي رسالة قوية وواضحة تؤكّد أن لا عاصم اليوم للنظام السعودي وعمقه الحيوي من بأس صنعاء وضرباتها الباليستية والمسيرة، إلا بإعلان تحالفها وقف عملياته العسكري العدائية، والرفع الفوري للحصار الذي يفرضه، فصنعاء لن تنجرّ خلف أيّ دعوات زائفة للسلام، على غرار تلك الصادرة عن البيت الأبيض. كما لن تُجدي توسلات النظام السعوديّ للمجتمع الدولي لدعمه في حفظ ما يُسميه إمدادات الطاقة العالمية، ما دام تحالفه يمنع دخول إمدادات الطاقة إلى اليمن، من خلال منع دخول سفن المشتقّات النفطية إلى ميناء الحديدة.

هذه العملية العسكرية الكُبرى رسالة لمن كانوا بالأمس يستكثرون على صنعاء صمودها، ويُنكرون عليها اليوم حقّها في الردّ على العدوان، ويمنّون عليها بدعوات زائفة للسلام، صادرة عمّن تلطّخت أيديهم بدماء اليمنيين، بأن من الأجدر بهم تحذير النظام السعودي وتحالفه من تداعيات استمرار مقامرته الفاشلة وحثه على إنهاء العدوان والحصار. وبذلك فقط، يُمكن للجميع الحُكم على جدّية صنعاء في السّلام من عدمه.

6 عمليات من توازن الردع نفّذتها صنعاء ضد تحالف العدوان، وتمكّنت فيها من نقل المعركة إلى العمق الحيوي للسعودية، إلى درجة أصبح فيها النظام السعودي يبحث عن كيفية الدفاع عن أراضيه وحماية أجوائه، في ظلِّ عجزه عن الرد، بعد استنفاد بنك أهدافه في اليمن.

مقابل ذلك، ثمة بنك أهداف لدى قوات صنعاء التي أعلنت عن أكثر من 300 هدف عسكري وحيوي في عمق دول تحالف العدوان، وفي مرمى صواريخها وطائراتها المسيرة، وفي مقدمتها أهداف في العمق السعودي والإماراتي، إذ أظهرت صنعاء من خلال عمليات توازن الردع قُدرة على ضرب أي هدف عسكري أو حيوي على امتداد الرقعة الجغرافية لمنطقة الخليج، لتُثبت بعد 6 سنوات من العدوان أنَّ معركة النفس الطويل هي معركتها، وليست معركة الرياض وتحالفها.

لقد تمكَّن تحالف العدوان من جعل اليمن حقلاً لتجارب الأسلحة الذكية والمحرمة دولياً، ولا سيّما الأميركية منها والبريطانية، ولكن تلك الأسلحة المدمّرة عجزت عن النيل من صمود الشعب اليمني العظيم وكرامته، ولم توقف الانتصارات المتلاحقة لقوات صنعاء في استعادة الكثير من المناطق اليمنية المحتلة، ليكون الشيء الوحيد الذي تمكّنت منه ترسانة تحالف العدوان هو ارتكاب أبشع الجرائم الإنسانية بحقّ آلاف المدنيين الذين طالتهم صواريخ وقنابل العدوان في الطرقات والأسواق والمزارع والمستشفيات وغيرها، إضافةً إلى فرض حصار جائر على الملايين والتسبب بأسوأ كارثة إنسانية.

تمكَّنت صنعاء أيضاً من جعل بنك الأهداف العسكرية والحيوية في العمق السعودي والإماراتي ساحة لتجاربها التي تزداد نجاحاً يوماً بعد يوم، حتى أصبحت حرب الصواريخ الباليستية والطيران المسيّر “ماركة” يمنيّة مسجّلة في الموسوعات العسكرية، وبشهادة العدو نفسه، إذ يتباهى النظام السعودي بأنَّه الأكثر قدرة في العالم على التصدي للصواريخ والطائرات المسيرة، وأنه اعترض 526 طائرة مسيّرة و346 صاروخاً باليستياً منذ بدء عدوانه على اليمن في آذار/مارس 2015، وهي أرقام تُثير التساؤل حول إجمالي عدد الصواريخ الباليستية والمسيّرات التي أُطلقتها قوات صنعاء.

وإذا سلّمنا بصحّة الادعاءات السعودية، فإنَّ تلك الأرقام المعلنة تُشكّل نسبة لا تتجاوز 40%، وفق العديد من التقارير الدولية العسكرية التي تؤكّد ضعف كفاءة منظومة “الباتريوت” الأميركيّة التي تستخدمها الدفاعات السعودية. وبذلك، يكون ما نسبته 60% من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة قد تمكّن من الوصول إلى أهدافه، بغضّ النظر عن حجم الأضرار والخسائر.

إضافةً إلى ذلك، إنَّ حقيقة تطوير صنعاء قدراتها الصاروخية والمسيّرة، وكشفها عن أجيال جديدة أكثر قدرة على المراوغة وتجنّب كشفها، يُقللان قدرات الدفاعات السعودية ونسبة الاعتراض المشار إليها، مع كلفة عسكرية واقتصادية باهظة جداً لعمليات الاعتراض، وهي جزء من استراتيجية صنعاء لاستنزاف الرياض.

دلالات عمليّة توازن الردع السّادسة
تُعدّ عملية الردع السادسة التي استخدم فيها 22 من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة التي قطعت أكثر من 1200 كيلومتر مؤشراً حقيقياً على قدرة صنعاء على شنّ عمليات مماثلة، وبعدد أكبر من الصواريخ الباليستية وأسراب من الطائرات المسيّرة دفعة واحدة، لضرب هدف أو عدة أهداف على امتداد كامل الجغرافيا السعوديّة ومنطقة الخليج، كما تُثبت العمليّة أن صنعاء تملك زمام المبادرة، وتحتفظ بعنصر المفاجأة من حيث اختيار التوقيت، وطبيعة الأهداف المراد ضربها، ونوعية الصواريخ والمسيّرات المستخدمة مع تحديد مساراتها جواً.

كما تُعطي هذه العملية مؤشراً على القدرة العالية في سرعة الردّ، وبقوة، إذ جاءت العملية بعد ساعات قليلة من قيام تحالف العدوان بشنّ غارات هستيرية على صنعاء وبعض المحافظات، في إطار ما أعلنهُ عن بدء عملية عسكرية واسعة.

وشمل ردّ صنعاء ضرب عدد من الأهداف العسكرية والحيوية الحساسة، كمقرّ شركة “أرامكو”، “عصب الاقتصاد السعودي”، في ميناء رأس التنورة النفطي، الذي يُعد أكبر ميناء لشحن النفط في العالم، إذ تسبّب ضرب خزانات النفط في الميناء بارتفاع أسعار النفط العالمية، الأمر الَّذي يدحض الرواية السعوديّة التي قلَّلت من شأن الضربات وما أحدثته من أضرار جسيمة مباشرة، إلى جانب التداعيات الاقتصادية المستمرة على المملكة، وجهودها في تحفيز بيئة الاستثمار الأجنبي، واستقطابها كبرى الشركات الأجنبية، وحثّها على نقل مقراتها الإقليمية إلى السعودية، ولكنَّ الانكشاف الأمني القائم يخلق بيئة طاردة للاستثمار، ويزيد من مخاوف الشركات الأجنبية. إضافةً إلى ذلك، تسبّبت العملية بشلّ حركة الملاحة الجوية داخل المملكة وإرباكها لساعات طويلة.

معركة مأرب ليست بمعزل عن هذه العملية التي توجه صنعاء من خلالها رسالة ردع إلى الرياض بأنَّ مأرب لم تعُد محمية سعودية، وأنَّ قرار تحريرها يملك كلّ عوامل النجاح، رغم الحشد غير المسبوق لتحالف العدوان بالعديد والعتاد في المحافظة، إضافة إلى غاراته الهستيرية التي لا تتوقف، لإسناد مرتزقته على الأرض ومنع قوات صنعاء من استكمال تحرير ما تبقى من مديريات مأرب وتقدّمها، لتستقر على الحد الجنوبي للمملكة.

سياسياً، هذه العملية العسكرية تأتي في إطار تأكيد صنعاء تمسّكها بحقّها المشروع في الردّ على تصعيد تحالف العدوان واستمرار حصاره، وتؤكّد استقلالية القرار والتوجّه إلى صنعاء، كما أنّها تُشكّل إضافة نوعية إلى واقع المعطيات الجديدة التي فرضتها، ومن شأنها تعزيز مكاسبها السياسية، ولا سيما تلك المرتبطة بعملية استئناف المفاوضات التي لا تبدو قريبة. إضافةً إلى ذلك، أثبتت صنعاء قدرة على توظيف الفرصة السانحة التي وفرتها الفجوة القائمة في علاقات واشنطن بالرياض لتحقيق مصالح مشروعة.

ختاماً، إنَّ صنعاء، وفي إطار ما تمتلكهُ من إمكانيات عسكرية ذاتية، تتعاظم انتصاراتها العسكرية ميدانياً، وما معركة استعادة مأرب سوى نموذج يُتوّج تلك الانتصارات. من ناحية أخرى، تقود صنعاء اليوم حرباً ذكية هي “حرب الصواريخ الباليستية والطيران المُسير”، ساعدتها في الانتقال من مرحلة الصّمود إلى مرحلة فرض معادلة الردع الاستراتيجي مع تحالف عدوان يملك جحافل من المرتزقة وترسانة عسكرية ضخمة، ولكنَّ ذلك لم يشفع له من السّقوط والوقوع في مستنقع الاستنزاف بكلّ أشكاله.

لذا، لا ضمان للهواجس الأمنية للنظام السعودي إلا بأمن اليمن. وعلى الرياض ترك مقامرتها ومراجعة سياستها تجاه صنعاء، الجار الأبدي الذي تحمّل الكثير من الأذى، وتصحيحها، أو انتظار المزيد من عمليات الردع، وصولاً إلى مرحلة الوجع الكبير التي تُعد لها صنعاء بوتيرة عالية.