النظام العالمي مابعد كورونا …!!

2٬229

أبين اليوم – مقالات

  بقلم / د. اشواق محمد

وفق كل التحليلات التي تدور اليوم في المحافل الأكاديمية وفي المنتديات الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية حول مصير (النظام الدولي) والتحديات الخطيرة التي ستواجهه في بقاء منظومته على ما هي عليه اليوم في زمن ما بعد (كورونا)،  وأول تحديات (النظام الدولي) في زمن ما بعد (كورونا) في التغيير سيكون متعلق بطبيعة بقاء منظومة النظام (الليبرالي) الذي دعمته (الرأسمالية) وعملت على تسويقه منذ نهاية (الحرب العالمية الثانية) بكل الوسائل الممكنة ليتحول تدريجيا إلى وحش مفترس في السوق المفتوح مع إطلالة دخول المجتمعات القرن الواحد والعشرين فالدول (الرأسمالية) وفي مقدمتهم (أمريكا) سوقت لهذا النظام – أي (النظام الليبرالي) – لتشكيل تحالفات بين هذه الدول؛ تكون قوته تحديداً في التبادلات (الاقتصادية) و(الأمن الغذائي العالمي) و(الصحة العالمية)،  كما سوق نفسه بكونه نظاماً داعماً للديمقراطيات.. وحقوق الإنسان.. والحريات.. ونظام الحكم العادل؛ ولم تستطع أية دولة في العالم معارضة هذا الاتحاد بين الدول (الرأسمالية) – بعد زوال (النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي) – ولم يظهر أي تهديد ضد انتشار (النظام الليبرالي) في دول العالم إلا بظهور جائحة وباء (كورونا)، هذا الوباء القاتل – غير المرئي – وانتشاره السريع شكل تهديداً حقيقياً له؛ ولكل الأسس والقواعد التي قام عليها (النظام الليبرالي).

أزمة جائحة (كورونا) كشف الغطاء عن جوهر وغاية ما كانت تسوق إليه (الرأسمالية)، لان جل ما كانت تبحث عنه (الرأسمالية) من خلال (النظام الليبرالي) هو متعلق بداية وانتهاء بـ(الاقتصاد) ، فالرأسمالية لا تضع قيمة عليا على الاقتصاد حتى وإن كان على حساب الأرواح البشرية .ولكن على النقيض من العقود الماضية، أصبح الدفاع النمطي عن الرأسمالية أضعف على المستويين الفكري والسياسي، ففي حين يرفع “رأسماليو الصحوة” الشعار التسويقي “قاوموا الرأسمالية”، فإن حتى الرأسماليين التقليديين مثل المائدة المستديرة للأعمال ــ وهي منظمة تضم الرؤساء التنفيذيين من أكبر الشركات الأميركية المدرجة في البورصة ــ يدعون إلى الإصلاح الجوهري.

على نحو مماثل، يشجب مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب النيوليبرالية وأصولية السوق الحرة، كما تعود المحافظون البريطانيون والجمهوريون الأميركيون على إدانة انتهاكات العولمة والسوق .طرق وباء كورونا على صفيح عددٍ كبيرٍ من المسلّمات والمبادئ الرأسمالية، ولكن السطح الأكثر سخونةً كان ارتقاء الاشتراكية ببعثها من مرقدها لتتصدَّر قائمة النقاش السياسي. وبينما تحارب المؤسسات اليمينية الراسخة صفة الجائحة على أنَّها “فيروس الصين” للهروب من حقيقة انهيار المنظومة الصحية، تنشّط  الدول المحسوبة على الاشتراكية (الصين وكوبا) في المقابل دبلوماسيتها الصحية لمساعدة عددٍ من الدول في مكافحة كورونا، ما خلق نظرةً إيجابية للاشتراكية، ولكن في الاتجاه الآخر تحولَّ الأمر إلى هاجسٍ منها.

وإذ خيَّم الخوف من الاشتراكية على الدول الرأسمالية، فهو ناتجٌ ممّا ارتبط بها من سلبيات مثل غياب الديمقراطية ومصادرة الحريات وكبح حرية التعبير وغيرها. وعوضاً عن ذلك، يدعم كثيرون تعزيز دور الدولة في الاقتصاد وفي حياة المجتمع على أساس الديمقراطية الاشتراكية. وتحوَّلت الصين بدرجةٍ كبيرة في سياستها الانفتاحية على دول العالم، التي بدأتها منذ سبعينيات القرن الماضي وانتقلت من مبدأ التعاون مع الدول انطلاقاً ممّا تمليه الأيديولوجيا الصينية الاشتراكية بضرورة تقديم العون للدول الفقيرة من دون الحصول على مقابلٍ سوى الإعجاب بالنظام الصيني، إلى دولةٍ تسجل أعلى معدل نمو في الاقتصاد العالمي.

ولقد فرضت الصين نفسها عالمياً بقدراتها الاقتصادية من خلال حضور عالمي لم تدخل في مواجهةٍ أيديولوجيةٍ مع الرأسمالية الغربية، إذ ظلَّت تحجب بريق صعودها خلف مبدأ التعاون مع الدول النامية.وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي خلال السنوات (1992-1988)، وجدت الصين نفسها محاطةً بدولٍ وتجمعاتٍ إقليميةٍ آخذة بالليبرالية الاقتصادية ونظام السوق، وعلى الرغم من ذلك واجهت خيارات الفرص ومخاطرها في الاندماج الكامل في الاقتصاد العالمي، فبقي اقتصادها يُوصف بأنَّه “اشتراكيٌّ”.

وزاد انتقال الصين من نظام الاشتراكية القائمة على التخطيط المركزي والانغلاق الاقتصادي إلى نظامٍ يعلن اشتراكية السوق مبدأ ومنهجاً، من اندماجها في اقتصاد العولمة الجديدة، لا سيما أنَّ الاقتصاد الصيني دمج عملية تنميته في نظام العولمة الجديدة القائمة على السوق العالمية، بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2000. وهكذا أصبح الانتقال الصيني يخضعُ بدرجةٍ متزايدةٍ للقوانين العامة للانتقال العالمي، ولكنَّه يخضع في الوقت ذاته وبصورةٍ متزايدةٍ لقوانين الخصوصية الصينية. ومع صعود القوة الاقتصادية للصين يأتي نفوذٌ جيوسياسيٌّ متزايد، وتنظر بلدان أوروبية عدّة إلى الصين باعتبارها المفتاح إلى النمو المحلي الأقوى.

ويتطلع الزعماء الأفارقة إلى بكين بوصفها شريك النمو الجديد الذي لا غنى عنه لبلدانهم، خصوصاً في مجالات تنمية البنية الأساسية والأعمال التجارية، ولكن هناك اتجاه يخفّف من المبالغة من قوة الصين ويعتبرها لا تقلُّ عن مخاطرة التقليل من إمكانياتها. يتبنى هذا الاتجاه هنري بولسون؛ وزير الخزانة الأميركي الأسبق، تحت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن خلال فترة الانهيار الاقتصادي، والرئيس التنفيذي لبنك غولدمان ساكس؛ ففي كتابه الصادر عام 2015 (“التعامل مع الصين… كشف حقيقة القوة الاقتصادية العظمى الجديدة”)، ومن خلال تعامله مع النخبة السياسية والاقتصادية هناك، رأى أنَّ الصين بلدٌ يواجه تحديات ضخمة، وفيه نظامٌ اقتصاديٌّ نفد منه الوقود، ويحتاج إلى إعادة تشغيل.

وفي ظل اقتصادٍ تبلغ قيمته عشرة تريليونات دولار، يرى أنّ إعادة تشغيله صعبةٌ جداً.إلا أن الصين نجحت في استخدام القوة الناعمة، ولعبت على كل جوانب هذه القوة في تقديم نفسها كنموذجٍ اقتصادي يقترب من الدول النامية، من حيث تشغيل العمالة البشرية بصورةٍ أكبر من الآلة، وتشجيع الشراكة لتطوير الاقتصاد من خلال التجارة والاستثمار في البناء التحتي والمؤسسات الاجتماعية، من دون فرض شروطٍ سياسيةٍ أو إصلاحاتٍ اقتصادية.

وتعتمد الصين في إدارة علاقتها مع الدول النامية والأفريقية على استراتيجية القوة الناعمة التي تتمُّ من خلال تقديم المساعدات والمعونات في المجالات الاجتماعية المختلفة. ولعل أهم المجالات التي دعمت فيها الصين علاقاتها مجال الصحة، حين اتّبعت في هذا الإطار ما يمكن أن يُطلق عليه دبلوماسية الصحة.أما كوبا، فقد ظلت ترسل متخصصين في الرعاية الصحية حول العالم، تضامناً مع المحتاجين وبتكلفة رمزية، خصوصاً في أفريقيا جنوب الصحراء وبلدان عدّة، كما أنَّها ترسل أطباء إلى الدول الأكثر ثراءً لمساعدة اقتصاد بلادهم ومواجهة الحصار الأميركي. وقال فيدل كاسترو، رئيس الوزراء آنذاك، إن الرعاية الصحية العالمية والدولية ستكون المفتاح لاستراتيجية البلاد. هناك اختلافٌ طفيف بين البرنامجين الصيني والكوبي، فقد قام البرنامج الكوبي بدافع الاهتمام بتصدير المُثل الاشتراكية الثورية إلى أفريقيا وأميركا الجنوبية وبقية العالم.

بينما كان دافع البرنامج الصيني بالتوازي مع الأيديولوجيا، السعي أيضاً إلى جعل الدبلوماسية في خدمة السياسة والأهداف السياسية الخاصة بها.أما النقطة المفصلية، فقد أشارت إليها رؤية الصحافي كيفن د. ويليامسون، بأنَّ “كل هذا الجدل حول الاشتراكية ليس جدلاً حول الاشتراكية بحدّ ذاتها، وإنَّما حول الوضع الراهن المتمثّل في حقيقة أنَّ الرأسمالية قد خيّبت آمالنا وفي أنَّ الاشتراكية، باعتمادها على توصيفٍ مفرط التبسيط للواقع، هي الحل لمشاكلنا التي تسبّبت بها الرأسمالية”. وإذا كانت الصين أُجبرت على التكيُّف مع قواعد عالمٍ مُعولمٍ أنشأه رأس المال الأميركي والقوة العسكرية الأميركية، فإنَّ تقبُّلها للفوائد الاقتصادية للعولمة، لم تفقدها التحكُّم على واقعها عبر أيديولوجيةٍ مُرافقة ذات خصائص صينية، وهي ما نجحت في التبشير به خلال هذه الأزمة، كما قبلها.

السؤال الملح الأن…ماذا بعد أن ينتهي العالم من معركته مع وباء كورونا؟ إن كانت أزمة وباء كورونا قد كشفت عن عيوب هيكلية في المجتمع الرأسمالي، وإن كنّا سنشهد ولادة نظام اقتصادي جديد أكثر انضباطاً…فما هوية النظام الجديد المرتقب ليبرالي، أو شيوعي، أو اشتراكي، أو رأسمالي بضوابط؟هناك اجماع بين اوساط الاقتصاديين والسياسيين في العالم حول اختلاف النظام الدولي العالمي الراهن. واحتمالية فرض كورونا نظام عالمي جديد بمعايير مختلفة. ذهبت مجلة فورين بوليسي لخلق تصور لما سيكون عليه شكل العالم سياسياً واقتصادياً بعد الازمة الحالية.المجلة وجهت سؤالها لعدد من المفكرين وكانت تصوراتهم كالتالي :-

– صعود الحركات القومية وتعزيز دور سلطة الحكومات وقبضتها على مقاليد الامور.

–  انتقال ميزان القوى العالمية من الغرب الى دول الشرق التي استطاعت ادارة الأزمة بفعالية .- نهاية العولمة بشكلها الحالي خاصة بعد التوتر التجاري بين الولايات المتحدة والصين وتنامي نشطاء البيئة بخفض انبعاثات الكربون في الاعتماد على خطوط الانتاج الراهنة .

– تغيير في شكل العلاقات الدولية بين الدول وداخلها – بحيث ستتجه الدول الى الانغلاق والرغبة في التمحور داخلياً مما قد يؤدي إلى ارتفاع مستوى الفقر.- خلق مرحلة جديدة من الرأسمالية العالمية حيث ستتجنب الحكومات والشركات الانفتاح ونظم التجارة الحالية العابرة للحدود وبالتالي الاتجاه الى الانغلاق والانطواء داخلياً وتتبع نظم الانتاج والتوزيع والربح الداخلي كوسيلة اكثر امان.