عبدالله باذيب، 1959: مؤامرة على اليمن*(1) خطوط السياسة البريطانية في الجنوب اليمني دولة العملاء والأجانب، والكراكيس

285

يقف شعبنا في الجنوب اليمني المحتل اليوم في خط الدفاع الأول ضد الاستعمار و يمر بمرحلة حاسمة من مراحل تاريخه النابض بالكفاح والبطولات… وبكل ما هو رائع وخالد وأصيل.

يقف شعبنا في الجنوب اليمني المحتل اليوم في خط الدفاع الأول ضد الاستعمار و يمر بمرحلة حاسمة من مراحل تاريخه النابض بالكفاح والبطولات… وبكل ما هو رائع وخالد وأصيل.

فالاستعمار الذي راعه نمو كفاح شعبنا وتعاظم المد الشعبي خلال الأعوام الثلاثة 56 و57 و58 على طول الطريق من إضرابات مارس المجيدة الى انتفاضة أكتوبر الخالدة.. والاستعمار الذي راعته السياسة الخارجية الاستقلالية التي تتبعها حكومة اليمن المستقل، والذي راعه امتداد حدود الجمهورية العربية المتحدة إلى اليمن وسقوط حلف بغداد تحت ضربات الثورة العراقية الباسلة.. الاستعمار هذا يحاول الآن عن طريق مشاريعه الإجرامية عزل شعبنا على التيار العربي التحرري الصاعد.

الورقة الرابحة

كما أقامت بريطانيا مجلسها التشريعي في عدن بالحديد والنار وفي ظل حالة الطوارئ وعلى جماجم شهداء انتفاضة أكتوبر ورغم إرادة شعبنا الذي قاطع الانتخابات، في إجماع رائع، لغرض إعداد عدن للحكم الذاتي المشبوه..

هكذا تقيم بريطانيا اليوم اتحادها الفيدرالي في إمارات الجنوب اليمني وفي نفس الظروف كرد فعل لاتحاد اليمن المستقل مع الجمهورية العربية المتحدة وكوسيلة لإضفاء الصفة الشرعية على وجودها الاستعماري هناك ولتشديد قبضتها على المنطقة وقطع الطريق على وحدتها مع اليمن الأم..

وكلا المشروعين الحكم الذاتي لعدن والاتحاد الفدرالي البريطاني للإمارات… كلا هذين الخطين يلتقيان في النهاية -ووفقا لتخطيط السياسة البريطانية في جنوبنا اليمني- عند نقطة واحدة ويستهدفان في المدى البعيد شيئا واحدا.. وهو ان تلتقي الانفصالية في عدن تحت اسم الحكم الذاتي بـ الانفصالية في الإمارات تحت اسم الاتحاد الفيدرالي داخل إطار دولة واحدة تتمتع باستقلال اسمي زائف وترتبط بالكومنولث البريطاني وتعادي اليمن الأم وتشكل تهديدا خطيرا للحركة العربية والتحررية والسلام العالمي..

ولئن كان هذا الاتحاد الفيدرالي البريطاني لم يشمل في المرحلة الأولى أكثر من ست إمارات من إمارات الجنوب الغربية فإنه سيمتد ويتسع حتى يشمل الإمارات الشرقية وعدن نفسها تماما كما قالت صحيفة “التايمس” اللندنية. وأكثر من ذلك فان هذا الاتحاد قد ربط الإمارات بعدن أكثر فأكثر وشدد من قبضة الحكومة البريطانية في عدن على ما يسمى بالمحميات بل وجعل عدن مركز الثقل للاتحاد كما جعل من حاكم عدن البريطاني الحاكم الفعلي للاتحاد.

وبين يدي الآن كتاب بالإنجليزية أصدره في العام الماضي 1958 السير توم هيكنبوتم الحاكم السابق لعدن. وهو يعتبر وثيقة خطيرة تفضح أهداف بريطانيا في الجنوب ونواياها العدوانية وأطماعها الاستعمارية في الشمال.

وفي هذا الكتاب فصل هام بعنوان “الاتحاد الفيدرالي والمستقبل” يقول فيه توم هيكنبوتم: “وعبر الزمن ستزداد الروابط بين المستعمرة والمحميات وتتوثق إلى أن أتوقع أن أراهما وحدة سياسية متكاملة باتفاقهما المشترك بمساعدتنا وتشجيعنا” (ص 171).

ويقول أيضاً: “إن تكامل المحميات السياسي مع المستعمرة هو الخطوة الواضحة في الطريق إلى خلق دولة في شكل دومنيون. وأن عدن بمينائها العظيم ومصافيها التي تكرر خمسة ملايين طن من الزيت كل عام، هي المنفذ الطبيعي الوحيد للزيت على ساحل الجنوب العربي، وهي العاصمة الواضحة لدومنيون المستقبل الذي يتألف من المستعمرة والمحميات” (ص 173).

هذا بعض ما يمكن نقله الآن من كتاب حاكم عدن البريطاني السابق ومنه نتبين أن إقامة دولة في الجنوب تضم عدن والمحميات هو الأمل الأخير للسياسة البريطانية في الجنوب وهو الورقة الأخيرة التي يريد أن يلعب بها الإنجليز في الوقت المناسب كورقة رابحة.

ولعلنا ندرك الآن لماذا بدأ الانفصاليون في عدن حركتهم قبل أكثر من خمس سنوات تحت شعار “الحكم الذاتي لعدن” و”عدن للعدنيين” ولماذا عادوا اليوم -هم أنفسهم- يدعون إلى دولة واحدة في الجنوب تتألف من عدن والمحميات؟!

إنهم يغيرون مواقعهم تباعاً لتغيير مواقع السياسة البريطانية وكلما هبط عليهم الوحي من 10 داوننغ ستريت بلندن..

إنهم يثبتون دائما أنهم ” نعمة من السماء للمستعمر” المتقهقر، تماماً كما وصفتهم -ذات يوم- صحيفة الإيكونوميست البريطانية.

خطوط السياسة البريطانية

والحقيقة أن بريطانيا كانت تفكر من البداية في إقامة كيان واحد للجنوب منفصل عن اليمن الأم ومناهض لها وإن سلكت إلى ذلك سبلاً مختلفة.

وكانت هناك أسباب كثيرة تدفعها إلى هذا التفكير نذكر منها هذه الأسباب:

# تعذر احتفاظ الانجليزي بعدن دون ربطها ربطاً وثيقاً بـ”المحميات” التي تعتبر بمثابة الدرع الواقي للسيطرة البريطانية في عدن.

# نمو كفاح شعبنا في الجنوب اليمني متفاعلاً ومتشابكاً مع كفاح الشعوب العربية وكل شعوب العالم.

# موقف حكومة اليمن المستقل.. هذا الموقف الذي يقوم على أساس رفض الوجود الاستعماري في الجنوب. وعدم الاعتراف بشرعيته باعتبار أن الجنوب جزء لا يتجزأ من اليمن الأم.

وهو موقف يفتح الطريق للوحدة اليمنية بين الجنوب والشمال. ويدعم حركتنا الوطنية بشكلها السياسي في عدن وبشكلها المسلح في “المحميات”.

ومن البداية كانت خطوط السياسة البريطانية في الجنوب تسير جنباً إلى جنب وفي وقت واحد واتجاه واحد متمثلة في هذين الخطين: الحكم الذاتي لعدن، والاتحاد الفيدرالي للإمارات.

والاستعمار البريطاني يدرك جيداً أن مركزه الدولي في عدن ضعيف وغير معترف به من حيث أن وجوده هناك يقوم على أساس الغزو والغصب والقرصنة ويدرك أن الوعي الشعبي إلى ازدياد والحركة الوطنية إلى نمو وتعاظم. ولذلك فهو يعد عدن للحكم الذاتي ليضفي على وجوده الصفة الشرعية وليحصل في النهاية وعن طريق التطور الدستوري على حكومة من سكان عدن نفسها، حكومة من العملاء والأجانب يستطيع أن يحكم البلد من خلالها حكماً غير مباشر ويستخدمها كمخلب قط لضرب الحركة الوطنية.. ذلك لأن الحكم الذاتي لا يعدو أن يكون تغييراً إدارياً شكلياً وعملية تبديل الوجوه الحاكمة.. وأما سيطرة الاستعمار الحقيقية الفعلية، فتبقى هي هي من وراء الستار.. وأما جوهر مصالحه فيبقى هو هو تحت غلاف الحكم الذاتي.

ولكي يصل الاستعمار إلى هذا الغرض يفتح أبواب عدن لهجرة الأجانب لتشويه وجه عدن العربي الأصيل ولضرب الشعب وتمزيق صفوفه ومزاحمته في أرزاقه ولقمة عيشه. كما يسن دستوراً لعدن يحرم الأغلبية الساحقة من شعب عدن من حق الانتخاب، بينما يمنح هذا الحق للأجانب الدخلاء..

ويضع أخيراً مشروع “التعدين” الذي يعطي حق المواطنة لأبناء الكومنولث والذي يعتبر بحق الحجر الأساسي للحكم الذاتي المشبوه.

والاستعمار البريطاني يدرك أيضاً أن ثورة الشعب في “المحميات” إلى تطور واتساع وأن الشعب لا يهدأ إلا ليثور، وأن القانون الدولي لا يقر معاهدات الحماية والاستشارة الثنائية المعقودة بينه وبين السلاطين باعتبارها معاهدات غير متكافئة. وبما أن السلاطين هم السلطة الشرعية في نظر الاستعمار؛ فإنه يتجه إليهم ليعقد مع ستة منهم معاهدة واحدة ويؤلف منهم حكومة الكراكيس تحت اسم حكومة الاتحاد الفيدرالي لإمارات الجنوب العربي.

وفي النهاية يراد “لحكومة العملاء والأجانب” في عدن و”حكومة الكراكيس” في الإمارات أن تندمجا في دولة واحدة مستقلة اسماً وشكلاً، ومرتبطة فعلاً بعجلة الاستعمار.

(يتبع)

*مقال للأستاذ عبدالله عبدالرزاق باذيب، نشر في صحيفة (الطليعة)، العدد1، 4 أكتوبر 1959. انظر: عبدالله باذيب، كتابات مختارة، الجزء الثاني، ط1، دار الفارابي، بيروت 1978؛ ص11-19.