تركيا والإتحاد الأوروبي صراع المصالح

250

بقلم / هدى رزق

قدّمت تركيا طلب الترشّح منذ عام 1987 للانضمام إلى الإتحاد الأوروبي. وافق الأوروبيون على طلب الترشيح بشكلٍ رسميٍّ عام  1999. بدت تركيا للغرب كبلدٍ يقع على مفترق طرقٍ بين دول البلقان ودول الشرق الأوسط ، بين البحر الأبيض المتوسط ​​والبحر الأسود. نظر الأوروبيون إليها على أنها بلدٌ متميّزٌ للعلاقات مع الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية يمكن الاستفادة من موقعها الاستراتيجي.

ثمّن الأوروبيون الإمكانيات الشبابية ودورها في تحقيق اقتصادٍ  ديناميكيٍّ واعدٍ ، وتطلّعوا إلى القوة العاملة الرخيصة مقارنةً بما هي عليه في مجتمع أوروبا. مما قد يجعلها عنصراً أساسياً في الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية للإتحاد الأوروبي.

كان افتتاح المفاوضات في عام 2005 نقطة تحوّلٍ تاريخيةٍ للمشروع الأوروبي. في الواقع، لم تُثر عضوية  الدول التابعة للإتحاد السوفياتي السابق نقاشاتٍ عميقةً كتلك التي أحاطت معطيات ترشح تركيا. جرت مناقشاتٌ جديّةٌ تتعلق بحجم البلد وموقعه الجغرافي، ووزن الدين الإسلامي في المجتمع وموقف تركيا من قضيّة قبرص. أُثيرت أسئلةٌ تاريخيةٌ وديموغرافية ودينية وجيوسياسية طرحت طبيعة المشروع الأوروبي، وقبل كل شيء، ثقل الإسلام في تركيا الذي طرح اسئلةً جديّةً حول الطبيعة العلمانية للدولة منذ الإصلاحات التي قادها مصطفى كمال أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي. العلمانيةُ  في تركيا لا تعني فصلَ الكنيسة عن الدولة كما في أوروبا، بل هي السيطرة على الدين السائد، الإسلام، من قبل الدولة.

 المعايير السياسية كشروطٍ للضمّ والتزام تركيا أحد العراقيل

تمّ إعادة طرح المعايير السياسية التي يجدر بتركيا تلبيتها. كثيرةٌ هي المطالب التي لا تزال تركيا بعيدةً عن الوفاء بها بنظر الإتحاد الأوروبي. هي مسألة احترامٍ وحماية الأقليّة الكرديّة، هي اعتقال أعضاء ونوابٍ منتخبين من حزب الشعوب الديمقراطي الكردي للاشتباه في علاقتهم بحزب العمال الكردستاني.. وفي هذا الصّدد، دان الإتحاد الأوروبي والقادة الأوروبيون بانتظام نهج السياسة التركية تجاه الأكراد، ناهيك من اعتقالاتٍ للنواب والصحافيين الأتراك المعارضين وإهمال مسألة احترام سيادة القانون والاستخدام المفرط للقوة. انتقد الإتحاد الأوروبي هذه الإجراءات، مُعرباً عن قلقه بشأن استقلالية القضاء والفصل بين السلطات واستقرار الديمقراطية.

أدى عدم الاستقرار السياسي المرتبط بمحاولة الإنقلاب في تموز / يوليو 2016  إلى تراجع حقوق الإنسان خلال فترة حالة الطوارئ التي انتهت في 18 يوليو / تموز 2018. كانت الحكومة التركية قد نفّذت اعتقالات وإقالات واسعة، بذريعة توّرط حركة المعارض فتح الله غولن في الإنقلاب. ندّد الإتحاد الأوروبي بسجن الصحافيين والمتعاونين معهم، وبالقرصنة على الإنترنت وشبكات التواصل الإجتماعي.

الاستفتاء على الدستور واستبدال النظام النيابي بنظامٍ رئاسيٍّ وتهديد إردوغان بإعادة تطبيق عقوبة الإعدام في تركيا، حملت الإتحاد الإوروبي على التهديد بإنهاء المفاوضات. رأت المفوضيّة أن تركيا تواصل الإبتعاد أكثر فأكثر عن الإتحاد الأوروبي. جُمّدت المفاوضات في صيف 2016.

في 24 سبتمبر 2017، قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال الإنتخابات البرلمانية “يجب ألاّ تصبح تركيا عضواً في الإتحاد الأوروبي “. من جهته، أشار الرئيس الفرنسي عام 2018  أنه لن تكون مسألة العضوية على جدول الأعمال ويفضّل إرساء شكلٍ من أشكال “الشراكة”.

الصراع على شرق المتوسط يفجّر علاقة تركيا مع الإتحاد الأوروبي

تركيا الطامحة إلى استقلاليةٍ سياسيةٍ توسعية، دخلت شرق البحر الأبيض المتوسط  (ليبيا، حقول الغاز قبالة قبرص واليونان )​​، وكاد الصراع بين القوات البحرية الفرنسية وتلك التركية في صيف 2020 أن يتحوّل مؤخراً إلى احتكاكٍ عسكريٍّ خطيرٍ قبالة الشواطئ الليبية، حادثٌ سلّط الضوء على الانقسامات داخل حلف شمال الأطلسي “الناتو”، الذي وقف مُحرجاً أمام نزاعٍ بين اثنين من أكبرأعضائه. التزمت الحكومة الألمانية موقفاً محايداً في النزاع، مع أنها اعتبرته خطيراً للغاية، فشرق المتوسط يثير شهيّة القوى الدولية والإقليمية بسبب حقول الغاز قبالة سواحل “إسرائيل” ومصر وقبرص، ناهيك من مشروع خط أنابيب غاز “إستميد” بين قبرص و”إسرائيل” واليونان وإيطاليا، والذي يتوقّع الخبراء أن يُصدّر 16 مليار متر مكعب من الغاز إلى الإتحاد الأوروبي.

ماذ يريد إردوغان؟ يعتبر الرئيس الفرنسي ماكرون أنّ إردوغان يستغلّ وجود تركيا في الناتو ليتوسّع تحت خيمتها، لكن في تضادً معها ومع مصالح أوروبا. لا شك أنّ الرئيس التركي قد استغلّ تردّد الأميركيين وانقسام الأوروبيين وجمود الناتو لتنفيذ سياسته دون الاكتراث إلى المطبّات التي يسبّبها لحلفائه. وهو يريد حق تركيا بتوسيع مياهها البحرية في البحر المتوسط وبحر إيجه،  وبذلك يستدعي القوى الدولية إلى طاولة المفاوضات.

 المشروع الذي يطرحه يؤكد مرةً أخرى أنّ الرجل يستغلّ بؤر التوتر ليمرّر المشروع الذي تبنّاه حزب  العدالة والتنمية في آذار/مارس 2019. عندما أجرى الأسطول التركي مناورات في شرق المتوسط تحت إسم “الوطن المائي”، أرادت تركيا من خلاله استعادة وضعها الجغرافي التاريخي، كدولةٍ بحرية، وإعادة رسم خرائط الحدود البحرية (مياه إقليمية، منطقة اقتصادية خالصة، جرف قاري) في بحر إيجه وفي البحر الأبيض المتوسط.

وهذا يتطلب تعديل معاهداتٍ دوليةٍ وتحديداً معاهدتي لوزان 1923 وباريس 1947، وجزئياً، اتفاقية مونترو 1936 في ما يتعلق بالمضائق.

 مفهوم “الوطن الأزرق”، الجزر التي تصرّ تركيا على استعادة الجزر الثلاثة المحاذية للبرّ التركي وأهمها جزيرة كاستيلوريزو أو ميس بالتركية التي تبعد حوالي 3 كلم عن الساحل التركي وتبلغ مساحتها 10 كلم2، مما  يؤدي تلقائياً إلى زيادة مساحة المنطقة الإقتصادية التركية بحوالي 100 ألف كلم2 لتصل إلى 142 الف كلم2 .

تشتكي تركيا من نشر اليونان لقواتها العسكرية الضخمة في هذه الجزر، تشمل قواعد جوية ومنصات صواريخ هجومية، وقواعد بحرية إضافة الى قوات برية ومدفعية بعيدة المدى. ولطالما شكّلت هذه المسألة عنصر توتر ومناوشات بين البلدين. في هذا الاطار، أتى توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية في نوفمبر 2019 . لم يلحظ التوقيع إعطاء أي تأثير لجزيرة كاستيلوريزو/ميس”، أو لجزيرة كريت وكأنها متنازعٌ عليها ومضمونةٌ لتركيا، وهي تقع في الوسط بين مدن تركية ومدن ليبية، الأمر الذي يسمح بالتالي بترسيم الجرف القاري بينهما وفق مبدأ خط الوسط .

لقيت هذه الاتفاقية معارضةً شديدةً من الإتحاد الأوروبي، لكنها باتت وثيقةً دوليةً لأنها موقّعة من حكومتين شرعيتين، وتم إيداعها لدى الأمم المتحدة.

المسألة القبرضية أو القنبلة التي جمعت أوصال الإتحاد الأوروبي

زيارة إردوغان إلى قبرص الشمالية  ودعمه المرشّح  لرئاسة الجمهورية القومي التركي تتار الذي فاز من خلال طرحه حل تقسيم الجزيرة وإقامة دولتين مستقلتين يعني تكريس حق جمهورية شمال قبرص بامتلاك مياهٍ إقليميةٍ ومنطقةٍ إقتصاديةٍ خالصة. استخدم إردوغان هذه الزيارة كمنصةٍ لطرحه مشروع التقسيم ورسالةً واضحة إلى الأوروبيين إلى أنّ قبرص الشمالية التي لا تعترف بها سوى أنقرة، هي بطبيعة الحال تحت السيطرة التركية. وتركيا لا توافق على حدود المنطقة الإقتصادية الخالصة لقبرص اليونانية. إنه سياقٌ دبلوماسيٌ يعقّد بشكلٍ كبيرٍ علاقات أنقرة مع الإتحاد الأوروبي، خصوصاً منذ انضمام قبرص إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004. من الواضح أنّ إردوغان يفكّر بجعل جمهورية شمال قبرص حجر الزاوية في مواجهة اليونان وأوروبا، ويرى أنه بهذه السياسة سيتمكّن من استخدام الجرف القاري لشمال قبرص، للاستحواذ على الطاقة، والبدء بعمليات الاستكشاف والتنقيب في شرقي المتوسط لاسيما في المناطق المتنازَع عليها مع اليونان، من أجل الدخول في التحالفات والمنتديات الإقليمية الجارية بهذا الخصوص. جاء ردّ الإتحاد الأوروبي من داعمته ألمانيا، وهذا يعني أنه تهديدٌ جديٌّ بتضامن الإتحاد الأوروبي ضد مشاريعه. استغلّ دعم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب له في وجه الإتحاد الاوربي الذي يراهن اليوم على رئاسة الديمقراطي جو بايدن في إعادة القوة إلى العلاقات الأوروبية الأميركية.

حقّقت تركيا مكاسب في ناغورنو كاراباخ وليبيا وهي ستنتظر تبلوُر سياسة بايدن وموقف الإدارة الجديدة من صراع شرق المتوسط و تعي تماماً موقف إدارة أوباما من القضية القبرصية والغاز في شرق المتوسط، إلاّ أنّ المتغيّرات التي حصلت في السنوات الماضية على الصعيد الجيوسياسي مهمةٌ ولا يمكن للإدارة الأميركية إهمالها.