بدء موسم الحجيج الخليجي لإيران والبداية زيارة الشيخ طحنون بن زايد.. لماذا احتلّت مسقط المحطّة الأولى في جولة الأمير بن سلمان الخليجيّة والإمارات الرابعة؟ ولماذا يتفاقم قلق “الاحتلال” من التقارب الإماراتي الإيراني المُتسارع؟

5٬127

بقلم/ عبد الباري عطوان

بينما تعيش دول المركز العربيّة، سواءً في المشرق والمغرب العربي حالةً من الخُمول الدبلوماسي والصّراعات، والفتن الداخليّة، والخارجيّة، تشهد منطقة الخليج بشقّيها العربي والفارسي حِراكًا غير مسبوق هذه الأيّام تُشَكّل عودة العلاقات مع إيران محورها الرئيسي سلبًا أو إيجابًا.

زيارتان على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة الاستراتيجيّة بدأت الاثنين، يُمكن أن يُغيّرا شكل المنطقة الخليجيّة ويرسمان ملامحها السياسيّة والاقتصاديّة في المُستقبل المنظور، بما في ذلك خريطة التّحالفات الأمنيّة والعسكريّة أيضًا:
الأولى: الزيارة التي سيقوم بها الشيخ طحنون بن زايد مُستشار الأمن الوطني لدولة الإمارات إلى طِهران غدًا الاثنين تلبيةً لدعوة الجِنرال علي شمخاني نظيره الإيراني.

الثانية: الجولة الخليجيّة التي سيقوم بها الأمير محمد بن سلمان وليّ عهد السعوديّة، وحاكمها الفعلي في التّوقيت نفسه، وتُشكّل مسقط محطّتها الأولى ثم البحرين، فقطر فالإمارات وأخيرًا الكويت، حيث ستتصدّر إيران، وبرامجها النوويّة والصاروخيّة إلى جانب حرب اليمن جدول أعمالها.

الزيارة الأولى، أيّ تلك التي يقوم بها الشيخ طحنون بن زايد، رجل المُصالحات، ومُترجم السّياسة الجديدة للإمارات، تستمد أهميّتها من كونها تعكس انفتاحًا على الدولة الإيرانيّة التي كانت حتى الأمس القريب مصنفة كعدوّة، ومصدر تهديد خطير للمنطقة الخليجيّة، وتهدف لتحسين العُلاقات، وتسوية الخِلافات، بما يُؤدّي إلى خلق حالة من الثّقة المُتبادلة، وزيادة سُبل التّعاون السّياسي والاقتصادي.

السياسة الخارجيّة والإقليميّة التي كانت موضع إجماع من قبل دول مجلس التعاون الخليجي (باستِثناء قطر) طِوال السّنوات والعُقود الماضية، تقوم على أرضيّة تشديد حِصار ايران، وخلق القلاقل والاضطرابات الداخليّة فيها، لإضعاف النظام الإيراني إذا لم يتيسّر إسقاطه، ولا نُضيف جديدًا عندما نقول إنّ الحرب الإيرانيّة الأولى في الثّمانينات مع العِراق التي قامت بتحريضٍ وتمويلٍ خليجيّين، والأخيرة في سورية، تصبّان في هذا الهدف، ولكن عندما فشلت هذه السّياسة في تحقيق أغراضها، أيّ تغيير النظامين الإيراني والسوري، جرى التخلّي عنها، ولو مرحليًّا، واتّباع نقيضها، أيّ تحسين العلاقات مع إيران، تطبيقًا للمثل الإنكليزي الشّهير “إذا لم تستطع هزيمتهم انضم إليهم”، وهذا ما يحدث حاليًّا، الأمر الذي بات يُشَكِّل قلقًا لدولة الاحتِلال الإسرائيلي التي تقرع حاليًّا طُبول الحرب ضدّ إيران ولا تجد تجاوبًا ملحوظًا في منطقة الخليج.

دولة الإمارات تخلّت فيما يبدو عن سياساتها القديمة التي كانت تقوم على “المُناكفات” والمُواجهات السياسيّة والعسكريّة لخُصومها، وخاصَّةً حركة “الإخوان المسلمين” والدّول الدّاعمة لها، مِثل ليبيا وتركيا، وأصبحت تتبنّى سياسة جديدة عُنوانها الأبرز “تصفير المشاكل” وهي السّياسة نفسها التي تبنّاها الرئيس رجب طيّب أردوغان في بداية حُكم حزبه العدالة والتنمية لتركيا، وتخلّى عنها لاحقًا، وأدّت إلى تراجع شعبيّته والإنجازات الاقتصاديّة والسياسيّة التي حقّقها، وهذا ما يُفَسِّر هُدوء الجيش الإلكتروني الإماراتي وزيارات الشيخ طحنون لأنقرة والدوحة وطِهران ونيوم.

السّلاح المالي والاقتصادي يُشَكّل رأس حربة في السّياسة الإماراتيّة الجديدة، وكانت هذه السّياسة واضحة في زيارة الشيخ محمد بن زايد وليّ عهد الإمارات الأخيرة لأنقرة، وتشكيل صندوق استثمار بعشرة مِليارات دولار لدعم الاقتِصاد التركي، ومُحاولة تحسين العُلاقات بين البلدين بعد مرحلةٍ من التوتّر.

التّفسير الأبرز لهذا التحوّل الإماراتي يستند على عمودين رئيسيّين، الأول تراجع قوّة حركة “الإخوان المسلمين” في المنطقة، ومِصر تركيا وليبيا وتونس تحديدًا، أيّ أن الحركة لم تعد بالقُوّة التي كانت عليها في السّابق، والثاني تراجع قُوّة أمريكا، ونُفوذها، وانسِحابها التّدريجي من الشّرق الأوسط والتّركيز على الخطرين الصيني في شرق آسيا، والروسي في وسط أوروبا (أوكرانيا)، ولتعزيز سلاحها المالي، أيّ الإمارات التي تحتل المرتبة الثالثة بعد روسيا والسعوديّة في الصّادرات النفطيّة، تُخطّط حاليًّا لاستِثمار حواليّ 60 مِليار دولار في قِطاع الاستِكشافات والصّناعة النفطيّة لزيادة حصّتها إلى ما يَقرُب من أربعة ملايين برميل من الإنتاج يوميًّا لزيادة دخلها، وتسمين صندوقها السّيادي الذي يحتوي حاليًّا على 800 مِليار دولار أو أكثر، حسب آخر التّقديرات.

أمّا إذا انتقلنا إلى الزّيارة الثانية لعواصم دول مجلس التعاون الخليجي التي سيقوم بها الأمير بن سلمان وللمرّة الأولى مُنذ انقِطاع عن السّفر لما يَقرُب من العامين، فإنّها تعكس ثقة، وانقلابًا في السّياسات السعوديّة، ومُحاولة لترميم النّفوذ السعودي المُتآكل في المنطقة الخليجيّة والعالم، والبحث عن حُلولٍ ومخارج من الحرب اليمنيّة، ويُمكن ترجمة ذلك في النّقاط التالية:

أوّلًا: اختيار مسقط كمحطّة أولى في جولة الأمير بن سلمان، واحتِلال الإمارات المرتبة الرابعة، الشّريك في حرب اليمن، يعكس انقلابًا في التّحالفات الخليجيّة السعوديّة الجديدة، الأمر الذي يعني أن سلطنة عُمان باتت تتربّع على المركز الأول فيها لأسبابٍ عديدة، أوّلها وجود خلافات “مسكوت” عنها بين الإمارات والسعوديّة، وانفِراط عقد التحالف بينهما في حرب اليمن وربّما في المنطقة بأسْرِها.

ثانيًا: التقارب من السّلطنة قد يكون مُقدّمة للتطلّع إلى دورٍ لها في المُصالحة لحلّ الخِلاف السعودي الإيراني، كبديلٍ للحِوار الإيراني السعودي الذي بدأ في بغداد، وإعجابًا بالسّياسة العُمانيّة الهادئة، وحرصها على المواقف الوسطيّة، وبُعدها عن سياسة المحاور والتطرّف في المواقف، سواءً في حرب اليمن، أو الخِلافات الإقليميّة، والعُلاقة مع إيران، ومن غير المُستبعد أن يتطوّر هذا الإعجاب من قِبَل بن سلمان إلى تطبيقٍ عمليّ جزئيّ أو كُلّي لهذا النّهج، والتخلّي عن سياسة المُواجهات والصّدامات الحاليّة التي أدّت إلى عُزلة المملكة.

ثالثًا: من الواضح أن التحالف السعودي العُماني الجديد الذي يتجلّى في زيارة الأمير بن سلمان، واختِيار سُلطان عُمان الجديد السيّد هيثم بن طارق آل سعيد الرياض كأوّل محطّة خارجيّة يزورها بعد تولّيه الحُكم، إن هذا التحالف يقوى ويترسّخ على شكل زيادة التعاون التجاري والمشاريع المُشتركة، وفي الخط البرّي الجديد الذي يربط البلدين ويمتدّ لأكثر من 800 كم عبر الرّبع الخالي، ويكسر عُزلة عُمان ويفتح أمامها المزيد من الحُريّة، فقبله كان هُناك طريق برّي وحيد أمام السّلطنة للتّواصل مع العواصم الخليجيّة ويمر عبر الإمارات، أمّا الطّريق الجديد فيلغي هذه القاعدة، ويُحَقِّق التّواصل المُباشر مع السعوديّة والدّول الأُخرى، إلى جانب ربط السّلطنة بسورية والعِراق ولبنان والأردن، أيّ شِمال الوطن العربي.

خِتامًا نقول إن نُقطة التحوّل الرئيسيّة في هذا الانقِلاب في خريطة التّحالفات يعود إلى هزيمتين، الأولى لأمريكا في أفغانستان، والثانية لإسرائيل في حرب “سيف القدس” الأخيرة في قطاع غزّة، وفشل قببها الحديديّة، وعُزلتها عن العالم لأكثر من 11 يومًا، وهرولتها إلى واشنطن طلبًا للنّجدة عبر الوساطة المِصريّة لوقف الحرب، مُضافًا إلى ذلك تصاعد قوّة إيران، كقُوّةٍ عسكريّة إقليميّة كُبرى، مدعومةً ببرنامجين استراتيجيّين، الأوّل نووي (إيران دولة حافّة نوويّة وتملك الآن كُل عناصر بناء قنبلة ذريّة)، والثاني صاروخي باليستي أثبت فاعليّته الردعيّة، وحسم المعارك في اليمن وغزّة ولبنان والعِراق لصالح أذرعتها العسكريّة الحليفة.

دول الخليج وصلت إلى قناعةٍ راسخة مفادها أن لا الولايات المتحدة التي تتراجع كقُوّة عالميّة عُظمى، ولا إسرائيل، تستطيعان حِمايتها في السّنوات المُقبلة، ولهذا تتراجع عمليّة التّطبيع وسلام إبراهام، ويتقدّم الحِلف الإيراني العربي على الصُّعُد كافّة.. والأيّام بيننا.