عبدالله باذيب، 1959: مؤامرة على اليمن*(2)

235

خطوط السياسة البريطانية في الجنوب اليمني؛ جبهتان للسلاطين ومشروع واحد

ومن أجل هذا فإن الاستعمار اليوم في سباق مع اليمن.. إنه يسارع إلى تنفيذ خططه ومشاريعه في الجنوب ويعمل بنشاط على تهيئة الجو المناسب لها يحركه الخوف من أن تتطور الأوضاع في الشمال قبل أن تصل مشاريعه إلى مرحلتها النهائية فهو يعرف..

ضرورة عاجلة ومسؤولية تاريخية

على أن هناك سبباً يدفع الاستعمار الى التعجيل بإنجاز أهدافه في الجنوب.. ذلك هو تخلف الأوضاع الاقتصادية والحياتية في الشمال.

ومن أجل هذا فإن الاستعمار اليوم في سباق مع اليمن.. إنه يسارع إلى تنفيذ خططه ومشاريعه في الجنوب ويعمل بنشاط على تهيئة الجو المناسب لها يحركه الخوف من أن تتطور الأوضاع في الشمال قبل أن تصل مشاريعه إلى مرحلتها النهائية فهو يعرف حق المعرفة أن هزيمته الحقيقية تكمن في تقدم اليمن.

ذلك أن تقدم اليمن معناه “أن يستعد الانجليز للرحيل من عدن”.

ولست أنا الذي أقول هذا ولكنها صحيفة “المانشستر جارديان” الإنجليزية.

ومن أجل هذا يتآمر الاستعمار على اليمن ويخلق لها المتاعب ويثير ضدها حملات السخط والعداء لكي يشغلها عن التفرغ للإصلاح الداخلي.

وهكذا يتضح بجلاء أن تطوير الأوضاع المتخلفة في الشمال تطويراً سريعاً شاملاً ضرورة عاجلة حاسمة ومسؤولية تاريخية خطيرة يجب الاضطلاع بها بصدق وجدية وجرأة ويجب أن لا نسمح لمؤامرات الاستعمار بأن تشغلنا عن النهوض بها وتحمل أعبائها.

ففي ذلك الضمان الوحيد لاستقلال اليمن الأم.

وفي ذلك العلاج الحقيقي للاهتزازات والانفجارات التي تقع من حين لحين.

وفي ذلك السبيل الوحيد لضمان وحدة الصف الشعبي والاستقرار الداخلي في الشمال وتصفية الاستعمار في الجنوب.

وفي ذلك الرد الحاسم على مؤامرات الاستعمار وأطماع الطامعين على اختلافهم في الداخل والخارج.. من أجل خلق يمن حر موحد سعيد!!

جبهتان للسلاطين ومشروع واحد

ولنبدأ القصة من أولها..

كان ذلك في مارس من عام 1956 حين انفجرت إضرابات العمال المجيدة وانطلق المارد العمالي وحين هزت هذه الإضرابات الدوائر الاستعمارية في لندن فجاء اللورد لويد الوكيل البرلماني لوزير المستعمرات ليضع الخطط لتدمير الحركة الوطنية وتضليلها وحرفها عن مجراها الصحيح.. وجاء المستر جيمس يونج المستشار العمالي لوزارة المستعمرات ليضع الخطط لتخريب الحركة العمالية من الداخل وعزلها عن الحركة الوطنية السياسية.

وفي هذا الوقت كانت بريطانيا تعرض للمرة الثانية وبصورة أكثر جدية مشروع الاتحاد الفيدرالي على السلاطين..

وانقسم السلاطين إلى جبهتين.. جبهة موالية للإنجليز بقيادة شريف بيحان -وهي تؤيد المشروع وتقبله كما هو- وجبهة أخرى أقل ولاءً للإنجليز بزعامة السلطان علي عبدالكريم سلطان لحج، وهي تقبل المشروع من حيث المبدأ وإن كانت قد رفضت تفاصيل المشروع. ومعنى ذلك أنها قبلت مبدأ فصل الجنوب عن الشمال.

كانت نقاط الخلاف بين الجبهة السلطانية المعارضة للمشروع وبين الإنجليز تنحصر في نقطتين رئيسيتين. فقد كان السلطان علي يطالب بما يلي:

# أن يشمل مشروع الاتحاد المقترح عدن وأن لا يقتصر على “المحميات”.

# أن يحصل السلاطين على سلطات أوسع وصلاحيات أكثر بمعنى أن لا ينفرد الإنجليز بالسلطة كلها وأن لا تتركز في أيديهم وحدهم بل تكون السلطة مشتركة بين الانجليز والسلاطين.

هذه هي نقاط الخلاف الرئيسية بين الإنجليز والجبهة السلطانية المعارضة للمشروع بزعامة السلطان علي عبدالكريم الذي يطمع في اتحاد أكثر تقدماً نسبياً والذي تربطه علاقة قوية برابطة أبناء الجنوب.

ولقد تحركت الرابطة حينذاك وحاولت أن تتولى الرد -باسم الشعب- على مشروع الاتحاد فأصدرت بياناً سياسياً دعت فيه إلى قيام “دولة مستقلة ذات سيادة” للجنوب تتألف من عدن والمحميات تحت رئاسة مجلس يضم السلاطين.

ولكن رد الفعل هذا جاء ناقصاً وخاطئاً ومنافياً لمبدأ الوحدة اليمنية وبالتالي فهو لا يمثل إرادة الشعب تمثيلاً صحيحاً ومتكاملاً.. بل لم يكن البيان الرابطي -تماما كما وصفته في إحدى مقالاتي بصحيفة “الفكر” المعطلة- سوى نسخة شبه وطنية من مشروع الاتحاد الفيدرالي البريطاني.

أما الشعب فقد عبر عملياً عن رفضه للمشروع من أساسه في أكثر من إضراب وأكثر من انتفاضة، في إضرابات مارس الخالدة ومظاهرة شوال الشهيرة بعدن وفي حركات المزارعين بلحج ومظاهرات الشعب والطلبة بحضرموت وإضراب عمال القطن في أبين وفي ثورة الربيزي بالعوالق وثورة الدماني بالعواذل وثورة المجعلى والجعري بدثينة وثورة محمد بن عيدروس في يافع.

وكان تعبيره دائما معمداً بالدم والنار، نار البوليس والجنود ودم العمال والطلبة والفلاحين.

بريطانيا تفقد الأمل!!

إزاء هذا كله تراجعت بريطانيا وجمدت المشروع، ووضعته على الرف؛ ولكن إلى حين .

ولئن كانت مواقف الشعب هنا وهناك من أخطر العوامل في تجميد المشروع، فإن موقف حكومة اليمن المستقل كان دائماً العامل الحاسم.

وحتى الجبهة السلطانية المعارضة للمشروع نفسها، إنما كانت تستمد قوتها من موقف اليمن وتعتمد أساساً على الصراع الرسمي الدائر بين حكومة اليمن وبريطانيا حول مصير الجنوب اليمني محاولة الاستفادة من هذا الصراع لتحقيق أطماعها الخاصة.

(يتبع)

* مقال للأستاذ عبدالله عبدالرزاق باذيب، نشر في صحيفة (الطليعة)، العدد1، 4 أكتوبر 1959. انظر: عبدالله باذيب، كتابات مختارة، الجزء الثاني، ط1، دار الفارابي، بيروت 1978؛ ص11-19.