قمة الانقلاب الإستراتيجي في الإقليم (ج4)

2٬702

أبين اليوم – مقالات

بقلم : أحمد عز الدين
ما جرى ويجري ليس إلا حركة عنيفة لمفردات متعددة في قطعة واحدة من إستراتيجية مضادة ، على مقاس الإقليم العربي وتخومه الآسيوية والإفريقية ، وهي مفردات تحولت إلى قاطرات مندفعة تتعجل الوصول إلى شاطئها النهائي ، بعد أن تم مد القضبان أمامها على الأرض بالطول والعرض ، لتحقيق ما تريده من إنقلاب إستراتيجي شامل في أوضاع الإقليم .
رغم ذلك فإن هناك أكثر من صيغة شائعة تطل على مشهد هذا الإنقلاب من زوايا ضيقة وخادعة ، بعيدا حتى عن أولئك الذين أختاروا أن يكونوا وكلاء أمنيين لهذا الإنقلاب ، بعد أن شاركوا في مد عظام الأمة قضبانا أمام قاطراته ، وفي ملئها بالدم وقودا لحركته ، وقد اندمجوا في هذه الإستراتيجية بمزيج غريب من الخوف الغريزي ، والطمع الصارخ ، في الحصول على نصيب أكبر من كعكة الإقليم .
إن هناك صيغة أولى ، ترى أن دفع الضرر يتطلب الانكفاء على الذات ، وعدم اتخاذ موقف أو إجراء قد يمثل إعاقة واضحة لدوران عجلات الإستراتيجية ، طالما ظلت تحرث أرضا خارج كيانها الوطني ، وكأن ثمة إمكانية لنقل الأطراف بعيدا عن الحريق ، ونقل المساكن بعيدا عن الزلزال .
وهناك صيغة ثانية ، ترى أن ما يحدث يكاد أن يمثل اصطدام جرم سماوي بأرض الإقليم ، وهو أمر لا راد لقضائه ، ولذلك لا بديل عن إتباع إستراتيجية ( التكيّف ) مع ما يحمله من نتائج ويخلفه من آثار ، تقليلا لنسبة الخسائر ، مع أنه من المؤكد أن إستراتيجية ( التكيّف) شأنها شأن منطق ( الصفقة الواحدة ) قد أصبحت مستنفدة وغير منتجة .
وهناك صيغة ثالثة ، ترى أن موجة الضغوط الرئيسية سوف تقتصر على تحويل قضايا حقوق الإنسان إلى مدفعيات ثقيلة موجهة ، ولذلك فإن إدخال بعض التعديلات على مناخ الحياة السياسية العامة ، من شأنه أن يقلل من مساحة التعرض للنيران ، مع أن تصور أن قضايا حقوق الإنسان سوف تكون المصدر الوحيد للنيران ، هو بمثابة انتظار التهديدات الحقيقية فوق مسرح جانبي .
وهناك صيغة رابعة ، تستند إلى مفهوم اقتصاد السوق المأزوم بذاته ، بمقولة شائعة عن إمكانية تحويل الأزمة إلى فرصة ، مع أن الأمر يتجاوز الأزمة إلى المحنة .
وفيما أحسب ، فإن أيا من هذه الصيغ لن يكون صالحا للحفاظ على ما تبقى من النظام الإقليمي العربي ، فضلا عن كيان الدولة القومية ، ومبادئ السيادة داخل حدوده ، ذلك أن أبعاد الإستراتيجية المضادة في توجهها الذي بدأ بالفتح الإستراتيجي لضرب العراق ، ثم تعددت صورها بعد ذلك وصولا إلى قمتها الأخيرة ، إنما تعني موضوعيا إسقاط إستراتيجيات الردع الوطنية ، بعد ضرب أحد أركانها الثلاث ( وجود قوة رادعة – وجود إرادة وجاهزية لاستخدام القوة – النجاح في إقناع الخصم بتوفر الأمرين السابقين ) وإسقاط إستراتيجيات الردع إنما يعني من بين ما يعنيه ، السماح بتحول الإستراتيجية المضادة إلى إستراتيجية عليا حاكمة ، أو بتعبير أدق تحويلها إلى ( إستراتيجية قسر ) وعندما يتم ذلك يتم الانتقال من حالة الأمن النسبي بين جانبين إلى حالة الأمن المطلق على جانب واحد ، مما يعني أن أي شئ على الخرائط الآن أو غدا أو بعد غد ، سوف يكون قابلا لأن يتحول إلى هدف .
إن إدراك الخطر لا يعني تجاهله ، ولا يعني الصمت عليه ، ولذلك لن تجد تفسيرا أوضح من قيام دولة واحدة ليست من دول الإقليم ، ولا حتى من تخومه المباشرة ، هي التي عبّرت عن إدراكها للخطر ، رغم أنها لا تقع على البحر الأحمر وإنما على المحيط الهندي ، أما مصدر الخطر فقد مثّله منح الإمارات قطعة من جزيرة سُقطري اليمنية لحما وعظما ، لتقيم عليها مرافق عسكرية وإستخبارية لتحليل الحركة الجوية والبحرية في جنوب البحر الأحمر ، ( حسب تحديد موقع Forum الفرنسي – وحسب شهادة رئيس الموساد السابق ) أما الدولة فهي باكستان وأما السبب من منظور الأمن القومي الباكستاني ، وهو أن القاعدة الإسرائيلية فوق الجزيرة اليمنية ، ستمثل تهديدا مباشرا للمنطقة الاقتصادية الباكستانية ، رغم أنها تبعد عن هذه المنطقة مسافة 200 ميل بحري باتجاه جنوب بحر العرب ، وهو أمر كان له صدى حتى في الأروقة الأكاديمية الباكستانية ، فعندما طلب وزير خارجية السعودية من وزير خارجية باكستان أن يطلب من الحوثيين إيقاف تقدمهم جيشا ولجانا شعبية في مفصل حاكم للمواجهة وهو مأرب ، أصدرت جامعة (فورمان كريستيان كولدج ) في لاهور تقريرا أكاديميا وصف الحرب على اليمن بأنها ( معقدة ومدمرة ولها أبعاد إقليمية متعددة ) ووصف الدعوة التي تضمنها الطلب السعودي بأنها ( لا يعرف القصد الحقيقي منها ) ، أما جوهر التقرير الذي عكس تقدير الموقف في حسابات الأمن القومي الباكستاني فكان من جملة واحدة ( سُقطري هي الخطر وليست مأرب ) مع أن الأمر يبدو معكوسا عند دول الخليج ، وفي بعض زوايا الجامعة العربية : ( مأرب هي الخطر وليست سُقطري ) .
غير أن مد القضبان أمام قاطرات الإستراتيجية الأمريكية في البحر الأحمر ، وحول تخومه ومن جانبيه ، لم يكن وليد هذه المرحلة ، فقد بدأ مبكرا وتتابع بثبات ، فالوثيقة التي كشف عنها حزب ميرتس الإسرائيلي أشارت بوضوح إلى اتفاق سعودي إسرائيلي بخصوص باب المندب ، بل إن أول مذكرة وقعت بين الجانبين لتنظيم الملاحة في البحر الأحمر وقعت في عام 2014 ، وموقع القرن الأمريكي 21 هو الذي كشف عن لقاءات في الأردن بين السفيرين الإسرائيلي والسعودي تم بعدها إبلاغ إسرائيل بموافقة السعودية على منحها قاعدة في اليمن ، وهي ليست القاعدة الإسرائيلية السابق الحديث عنها في سُقطري ، ولا القاعدة الأمريكية السابق الحديث عنها في ميون على باب المندب ، ولكن مصادر أكدت أن تعز هي موقعها المختار ، بل أن هناك من ربط بين ذلك وبين السعي إلى فصل الساحل الغربي من اليمن ، وإقامة منطقة عازلة عاصمتها ( المخا ) تسيطر عليها كتائب من المرتزقة والإرهابيين والعملاء ، الذين جيشتهم الإمارات ولصقوا مؤخرا علم إسرائيل على قمصانهم ، ثم محاصرة الكثافة السكانية لـ ( تعز ) في الجبال الداخلية لمناطق مثل ( الحجرية ) و ( شرعب ) .
وإذا كان الأمر موصولا هذه المرة بالشاطئ الغربي لليمن خصوصا ، والغربي للبحر الأحمر عموما ، فينبغي أن يكون واضحا أن الهدف الأساسي للسيطرة على موانئ الحُديدة – المخا – عدن ، هو تمهيد لتغيير جيواستراتيجي ، ليس في اليمن وحدها ، ولكن في المنطقة كلها ، فالأهمية الإستراتيجية للحُديدة وحدها تكمن في أنها مركز الموانئ البحرية المقابل لميناء عصب الأريتري ، ومن يضع يده عليها ، يسيطر على الخط التهامي بطول 500 كم ، أما شبه جزيرة سيناء في إطار هذا الامتداد إقليميا ، فإنها لا تشكل القاعدة فحسب ولكنها القلب ، ولذلك فإن كل ما يجري حولها يستهدفها بشكل أو بآخر .
البقية في الجزء الخامس
من صفحة الكاتب على الفيس بوك