الترامبية ما بين الجذور التاريخية والممارسات الانتخابية

253

 مركز البحوث والمعلومات : خالد الحداء

بعيداً عن إقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بخسارته من عدمها للانتخابات الرئاسية التي أجريت في الثالث من شهر نوفمبر الحالي، يدور الحديث اليوم في الولايات المتحدة وفي العالم عن مدى واقعية الطرح القائل: أن أمريكا في طريقها نحو  التغيير مع تنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن، وبالتالي استعادة القيم الأمريكية التقليدية على المستويين الداخلي والخارجي وإظهار الولايات المتحدة في موقع القائد الكبير الذي يستطيع احتضان العالم في مختلف الأوقات.
من يقف وراء هذا الطرح، يسعى في الواقع إلى التأكيد أن الأربع السنوات الماضية (فترة الرئيس الأمريكي  الحالي دونالد ترامب) ليست إلا خطيئة لا يمكن تكراراها، وأن الشعب الأمريكي أدرك مدى فداحة ما حدث في الانتخابات الرئاسية عام 2016، وإنه آن الأوان للعمل على إبراز المكانة اللائقة للنظام السياسي في الداخل الأمريكي وعلى مستوى العالم.
في المقابل، هناك من يرى أن الطرح السابق يجافي الحقيقة، وأن لغة الأرقام خير دليل على أن الرئيس دونالد ترامب يمتلك شعبية كبيرة رغم خسارته المعركة الانتخابية، ولا سيما بعد حصوله على نحو 71 مليون صوت خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهو في الواقع رقم كبير سوف يعكس نفسه على التوجهات المستقبلية في الداخل الأمريكي عموماً وعلى المزاج العام في الحزب الجمهوري على وجه التحديد.
بقول أخر، ما أحدثه ترامب في سنواته الأربع ليس بالأمر العادي ولكنه يمثل علامة فارقة في تاريخ الشعبوية داخل الولايات المتحدة، وإن كان قد سبقه في ذلك الرئيسان رونالد ريغن وجورج بوش “الأبن”، حيث زاد على سابقيه برؤية استعلائية عنصرية على الآخر داخلياً، وعلى المستوى الدولي لم يتورع في تجاوز المواثيق والشرائع الدولية ومصادرة قراراتها ولم يكترث خلال فترة حكمه بإرادة المجتمع الدولي في مختلف القضايا والملفات.
ووفقاً لـ نيكولاس ليمان في تقرير نشر في مجلة “ذا نيويوركر” “فإن دونالد ترامب وضع على السكة ما يمكن تسميته << الترامبية>> وما كانت لتكون دون أن تتظافر العديد من الظروف لولادتها، وقد تكون سبباً في استمرارها”، البديهي حسب ليمان في هذا السياق، “هو ما ميز العقد الأخير في جميع أنحاء العالم، من سلسلة ردود أفعال على انعدام الأمن الاقتصادي والمساواة، ردود تبدت على شكل حركات قومية جاءت لتزعزع ما يكفي من حدود السياسة التقليدية”.
ولم يكن غريباً، أن يسعى ترامب إلى استمالة شريحة واسعة من الأمريكيين لكون الخطاب “الشعبوي” تحديداً يلقى صدى كبير، وهذا الأمر كان واضحاً في خطابات ترامب، حيث عمل على جذب محدودي التعليم ومن يؤمنون بنظريات المؤامرة ولم يتوقف في توجيه الاتهامات للعديد من الفئات، كالمسلمين واللاتين والنساء وغيرهم من الاقليات في تصريحاته المختلفة، في توجه مقصود لكسب ود الرجل الأبيض خلال الانتخابات.
وأمام هكذا توجه، لم يكن غريباً أن يصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض خلال انتخابات 2016 “وكان في طريقه للحفاظ على موقعة كرئيس لولاية ثانية خلال انتخابات 2020 لو أنه لم يرتكب بعض الهفوات، ولا سيما التعامل السيئ مع جائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية”، وتزول الغرابة إذا ما عرفنا نوعية الناخبين المؤيدين للرئيس ترامب، والملاحظ “حسب العديد من المراقبين الأمريكيين” إن الناخبين يصوتون لمن يشبههم “ظاهرياً وأيديولوجيا”، وبالتالي فأن الترامبية ليست حالة استثنائية قد يسهل تجاوزها مع خروج الرئيس ترامب من البيت الأبيض في الـ 20 من يناير القادم، ولكنها تعكس قناعات عميقة لدى طيف واسع داخل الولايات المتحدة.

الجذور الأولى للترامبية :
خلال سنوات ترامب الأربع داخل البيت الأبيض كان من الواضح أن مسار حكمه يعكس رؤية مجموعة محددة داخل المجتمع الأمريكي، ولم يكن سراً أن جماعات اليمين المسيحي اعتقدت في لحظات كثيرة أن ترامب يعتبر الزعيم الفعلي للحركة اليمينية المسيحية، وأنه امتداد طبيعي للأفكار النابعة من جماعات اليمين الانجيلية التاريخية في الولايات المتحدة، التي كانت منضوية  تحت مسمى  اليمين البديل “الشعبوية والقومية والعنصرية، والنازية الجديدة، والمؤمنين بنظرية المؤامرة، والمعارضة للاجئين والهجرة” وغيرها من الجماعات المتطرفة.

غير أن جذور تلك الجماعات الأصولية  يمتد إلى بداية التواجد الأوروبي في أمريكا الشمالية، وتحديدا الهجرات الأولى من  الأنجلوسكسون  البروتستانت الذي كان يغلب عليهم العرق البريطاني الأبيض، حيث كانت جرائم الإبادة تمارس تجاه أصحاب الأرض من السكان الاصليين “الهنود الحمر” وهم على اقتناع بأن الله فضلهم على العالمين وأعطاهم تفويضا بالقتل، وكانت النظرة الغالبة تجاه الهنود الحمر تنطلق من كونهم “كائنات منحطة بالوراثة وأقل منزلة من الرجل الأبيض”، وفي مراحل زمنية تالية، شهدت الساحة الأمريكية ظهور منظمات أكثر تشدد من سابقاتها تتبنى إيديولوجية متطرفة تجاه الأخر، وتتبنى التمييز العرقي ضد الأمريكيون الأفارقة في مختلف مجالات الحياة.
ومما لا شك فيه، أن المسار التاريخي لهذه العلاقة ما بين الرجل الأبيض وما بين السود أو الملونيين، يكشف بوضح بأنه قد تم استغلال الدين في تعزيز المفاهيم المتطرفة في الولايات المتحدة، فالجماعات الدينية التي فرت لأمريكا كان لديها منذ البداية شعور قوي بأنها استقرت في مكان له دور كتبه الله لها، ولم يكن في وارد تلك الجماعات أن تقبل بشراكة الغير في ذلك التميز الذي أراده الرب “كما يعتقدون”.

وفي هذا السياق، حرص اتباع الأصولية الإنجيلية على حرمان الأمريكيون السود من أي صوت لهم في الساحة التي يهيمن عليها البيض، والحقيقة هي أن الأمريكيين من أصول أفريقية لم يتغير وضعهم البائس، حيث عاش السود بوصفهم أمريكيين في مجتمع يدعي بأنه ديمقراطي ويؤمن بعقيدة وطنية نبيلة، ألا وهي: أن جميع الأفراد يملكون حقوقاً لصيقة لا يمكن التنازل عنها في الحياة والحرية والمساوة وتقرير المصير، لكن عندما يتعلق الأمر بالزنوج فالوضع مختلف جذريا فهم نبذوا إلى أسفل المراتب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويعيشون في مناطق معزولة عن الرجل الأبيض، وكانوا محرومين من تلك الحقوق بطريقة ممنهجة.

الترامبية والانتخابات الأمريكية :
يؤكد علماء الاجتماع أن المجتمع في الولايات المتحدة ومع انتصاف القرن العشرين خضع لمتغيرات متواصلة كانت لها آثار مباشرة وعميقة على مختلف الفئات، حيث شهدت البلاد نمواً سكانيا بنسبة تقارب 40% وحدثت الزيادة الحادة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى ترافق ما سبق مع  التحول السكاني بعد الحرب والمتمثل بانتقال الملايين من السكان إلى ضواحي مختلف المدن، ومع مرور الوقت أصبح المجتمع أكثر انفصالاً عن بعضه من حيث الطبقة والعرق.
وخلال تلك المرحلة، سعت الزعامات الدينية المسيحية إلى التأثير على الحياة العامة، وكانت المساعي تراهن على فرض توجهاتهم الفكرية في مختلف مناحي الحياة بما فيها الدينية والسياسية والاقتصادية، وبما يساعد في  تحقيق الهدف الأهم وهو السيطرة على حاضر ومستقبل الولايات المتحدة، آخذين في الاعتبار أن أغلب الأمريكيين ولا سيما البيض يُعرفون أنفسهم بأنهم مسيحيون.
ولكن تلك التوجهات لم يكن لها أن تمر كما أراد زعماء البروتستانت الإنجيليين، حيث شهدت البلد حركات احتجاجية متواصلة تطالب بالحقوق المتساوية مع الرجل الأبيض، وأمام تصاعد الحراك الشعبي وانضمام الآلاف لها كان لزاماً على السلطات الأمريكية الاستجابة لصوت الشارع، وبالتالي نجحت حركة الحقوق المدنية في انتزاع الاعتراف بالحقوق المتساوية “دون حساب للون في الخدمات العامة والتعليم والمشاركة السياسية” ولجميع أفراد الشعب الأمريكي.
شكل الاعتراف بالحقوق المتساوية لجميع الأمريكيين في عقد الستينيات من القرن العشرين، صدمة مدوية للمتشددين الإنجليون من جانب وتراجع لتأثيرهم السياسي من الجانب الاخر، هذا الواقع الجديد “الاعتراف بالحقوق المتساوية لجميع الأمريكيين” لم يكن أن يمر دون ردة فعل من قبل زعماء الجماعات الإنجيليون في سبيل تجاوز تلك الانتكاسة، حيث كان التوجه نحو إنشاء تحالف يعمل في بادئ الأمر على تقليل الخسائر لليمين الأمريكي كمرحلة أولى، وفي المراحل التالية العمل على استعادة مكانتهم داخل المجتمع سياسيا واقتصاديا ودينياً واجتماعياً، وعمل هذا التحالف على الانخراط مباشرة في بناء المنظمات السياسية للمساهمة في توجيه وتحريك الملايين من أتباعها بإتجاه العمل السياسي والإدلاء بأصواتهم خلال الانتخابات لصالح مرشحين محددين، يشار إلى أن التزاوج ما بين “الدين والمال” انعكس إيجاباً خلال العقود التالية على استعادة اليمين الإنجيلي لتأثيرهم على القرار السياسي داخل الولايات المتحدة الأمريكية.

يذكر أن تحركات زعماء اليمين المسيحي ترافقت مع تراجع حظوظ الحزب الجمهوري في الوصول للسلطة خلال منتصف القرن الـ 20، وأدرك القائمين على الجماعات المسيحية أن الحزب الجمهوري بحاجة إلى استقطاب أصوات ناخبي اليمين، في سبيل العودة والسيطرة على مؤسستي الرئاسية والكونجرس، بعد أن فقد السيطرة عليهما خلال العقود الخمسة التي سبقت عقد السبعينات من القرن العشرين.

في إطار ما تقدم، كان من الواضح أن تحركات زعماء اليمين المسيحي الإنجيلي تدرك جيداً أن عودتهم إلى سابق نفوذهم ، لن تكون سوى بتوطيد تحالفهم مع الحزب الجمهوري، بالمقابل لم يكن مستغرباً أن يكثف القائمين على الحزب الجمهوري جهودهم لاستمالة الناخبين الأمريكيين من الأصوليين المسيحيين البروتستانت، من خلال انتهاج سياسات حزبية محافظة فيما يتعلق بالقضايا الرئيسية التي تهم اليمين الأمريكي، كقضايا حقوق المرأة والإجهاض والموقف من المهاجرين، وفي المحافظة على تفوق العرق الأبيض “الانجلوسكسوني” على ما دونه من أعراق.
وفي مؤشر على نجاح ذلك التحالف، نجاح الحزب الجمهوري في الانتخابات “ما بعد عقد السبعينيات من القرن العشرين” في العودة والسيطرة خلال عدة فترات على البيت الأبيض وعلى الكونجرس بمجلسيه، بفضل اكتساب مرشحي الحزب أصوات الملايين من الأصوليين المسيحيين، واتساقا مع هذا التحالف التقليدي، كان فوز دونالد ترامب بنسبة 81% من أصوات البيض الإنجيليين البروتستانت، الذي استخدم الديماغوجية في خطاباته في سبيل استثارة العواطف واللعب بمشاعرهم لإقناع الناخبين منهم بالصور والقناعات السابقة التي يحتفظون بها، وبالتالي الحصول على دعمهم في الانتخابات.
ختاماً، نعم خسر دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية، ولكن القاعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الداعمة للترامبية باقية خاصة بعد أن أعطت نحو 71 مليون صوت لممثلها في الانتخابات الرئاسية الحالية، والسنوات القادمة سوف تكشف أن ترامب ليس استثناء، ولكنه امتداد لحالة متجذرة منذ تأسيس الدولة، وقد تكون الترامبية في يوماً ما السبب الرئيسي في تصدع وانهيار الولايات المتحدة الأمريكية من الداخل!

المصدر/ سبأ نت