عطوان: لماذا يُشَكِّلُ هذا التّكالب الأمريكيّ “الملغوم” للوصول العاجِل لهُدنةٍ في القِطاع مُحاولة لمنعِ “حربٍ أهليّة” وإنقاذًا للدّولة الأمريكيّة العميقة؟ وأين السّخاء الإسرائيلي الذي يتحدّث عنه بلينكن؟ وكيف تَملُك محكمة الجنايات الدوليّة الصّلاحيّة لاعتِقال بوتين والبشير وليس نتنياهو يا بايدن..!

4٬785

أبين اليوم – مقالات وتحليلات 

تحليل/ عبدالباري عطوان:

لنبدَأ من الآخِر، ونقول، وباختصارٍ شديد، إنّ حالة السّعار الدبلوماسيّ الأمريكيّ التي يقودها الرئيس جو بايدن شخصيًّا ووزير خارجيّته أنتوني بلينكن هذه الأيّام، لاستِعجالِ التوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النّار وتبادل الأسرى بين حركة “حماس” ودولة الاحتِلال الإسرائيلي تأتي ليس رحمة، أو حِرصًا، على وقف حرب الإبادة والتّطهير العِرقي في قطاع غزة، وإنّما لأسبابٍ داخليّةٍ أمريكيّةٍ صرفة فرضتها الثّورة الطُّلّابيّة في الجامعات الأمريكيّة المُتصاعدة، ويُمكن أنْ تقود إلى حربٍ أهليّة، وتغيير شاملٍ وجذريٍّ، في الخريطة السياسيّة الأمريكيّة المُتَجذّرة مُنذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، وعُنوانها الأبرز الدّعم المُطلق لدولة الاحتِلال ومنْع سُقوطها.

الدّولة الأمريكيّة العميقة ترتجف رُعبًا من انفِجارِ هذه الحرب، في عُقْرِ قِلاعها الجامعيّة ومن حُكّام وناخِبي المُستقبل، وتمحورها حول المجازر الإسرائيليّة المُستمرّة مُنذ 205 أيّام في القطاع، وتصاعد ألسنة لهبها، وتوسّع دائرتها، سواءً داخِل الولايات المتحدة نفسها أو في مُختلف جامعات العالم، ولهذا تُمارس ضُغوطًا غير مسبوقة على حُلفاء أمريكا العرب، وخاصَّةً الوُسطاء في مِصر وقطر، للتّسريع بالتّوصّل إلى اتّفاق، فوقف الحرب في غزة يعني وقف الثّورة في الجامعات الأمريكيّة، وتَقليصُ أخطارها وامتِداداتها، ووأدها في مَهدِها.

فهذه الثّورة الطُّلّابيّة التي فكّت الارتباط المُزوّر الكاذب بين مُعاداة الصّهيونيّة ومُعاداة السّاميّة، تُعيد تذكير هذه الدّولة العميقة، بأنّ مثيلتها التي انفجرت في ذروة حقبة الحرب الفيتناميّة هي التي لعبت دورًا كبيرًا في الهزيمة الأمريكيّة، وإسقاط الرئيس جونسون، وشقيقتها التي اندلعت في الجامعات الفرنسيّة عام 1968 هي التي أطاحت بالرئيس شارل ديغول بَطَلُ حرب التّحرير في بلاده، والشّيء نفسه تكرّر وتمثّل بالإطاحة بالنّظام العُنصريّ في جنوب إفريقيا، وانتِقال القائد العظيم نيلسون مانديلا من المُعتَقل إلى مقرّ الرّئاسة.

أنتوني بلينكن وزير الخارجيّة الإسرائيلي، عفوًا الأمريكي، يتواجد حاليًّا في المِنطقة للضّغط على حُلفاء بلاده العرب في الخليج ومِصر والأردن “لتسويق” اتّفاق هدنة “مُؤقّت” لحركة “حماس” يُؤدِّي إلى وقفٍ مُؤقّتٍ لإطلاق النّار لمُدّة 42 يومًا، دُونَ أيّ نَصٍّ صريح بانسحابٍ إسرائيليٍّ كامِل من القطاع، وعدم إعادة غزوه، وبدء فوري لعمليّة إعادة الإعمار، وتبادل للأسرى، وتتحدّث بعض التّسريبات الأُخرى عن بندِ قيامِ قوّاتٍ مِصريّة بالإشراف على عودة النّازحين إلى شِمال القطاع، وتفتيشهم، والسُّؤال هو لماذا هذا التّفتيش؟ فهل جاء هؤلاء من إيران أو اليمن أو روسيا؟

مِنَ المُفارقة أنّ بلينكن الذي كان، وما يزال، مُؤيِّدًا لحرب الإبادة الجماعيّة الإسرائيليّة في القطاع، وقامَ بجولةٍ عربيّة لدَعمِ العُدوان الإسرائيلي في أيّامه الأُولى على القطاع، وروّج لمشروع تهجير مِليونين من أبنائه وتوطينهم في خِيامِ مدينة سيناء، يتَغزّل بالاتّفاق الجديد، ويصفه بأنّه يتضمّن عرضًا إسرائيليًّا سخيًّا جدًّا يجب على حركة “حماس” قُبوله فورًا.

لا نعرف أين يُوجد هذا السّخاء الإسرائيلي في الاتّفاق، وكُل ما نعرفه أن نتنياهو ومجلس حربه لم يُوافق عليه حتّى الآن، وينتظر أنْ تُوافق عليه حركة “حماس” حتى يرفضه إرضاءً لشريكيه الإرهابيين بن غفير وسموتريتش، وكشف عن نواياه أثناء لقائه مع عائلات الأسرى عندما قال إنّ الهُجوم على رفح للقضاء على أربعة كتائب لحركة “حماس” مُتمركزة فيها، سيتم سواءً جرى التوصّل إلى اتّفاقٍ أو لا.

والأوقح من ذلك أن بلينكن يطرح مُقايضة جديدة عُنوانها الأبرز وقف العُدوان على رفح مُقابل التّطبيع بين المملكة العربيّة السعوديّة ودولة الاحتِلال، الأمر الذي يُشَكّل إهانةً جديدةً للعرب والمُسلمين حُكومات وشعوبا.

كيف نثق بالولايات المتحدة وأي من ضماناتها ووعودها، عندما تُعلن وزارة الخارجيّة الأمريكيّة، وعلى لسان “رسول” السّلام بلينكن في بيانٍ رسميٍّ “لا تُوجد لدينا أيّ أدلّة تُؤكّد المزاعم حول ارتكاب إسرائيل حرب إبادة في القطاع”، وتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما تقول في بيانٍ آخَر “محكمة الجنايات الدوليّة في لاهاي، لا تملك أيّ صلاحيّة لاعتقال نتنياهو أو أيٍّ من جِنرالاته، بتُهمة ارتكاب جرائم حرب في القطاع”.

نعم.. هذه المحكمة التي لا عُضويّة للولايات المتحدة فيها، تملك الصّلاحيّات، وبدعمٍ أمريكيّ، لاعتِقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقبله الرئيس السّوداني السّابق عمر البشير، أمّا نتنياهو فهو حَمَلٌ وديع، وحمامة سلام، وفق تصنيف أمريكا زعيمة العالم الحُر، ومُفجّرة الحُروب باسم الديمقراطيّة وحُقوق الإنسان في العالم، ويسألوننا لماذا لا نُحب الإدارات الأمريكيّة.

كُنّا نتمنّى لو أنّ المسؤولين في المملكة العربيّة السعوديّة، قدّموا فيديوهات مُوثّقة عن قتْل الجيش “الأخلاقي” الصّهيوني أكثر من 34 ألفًا في قطاع غزة مُعظمهم من الأطفال والنّساء، وفيديوهات أُخرى عن قمْع أجهزة الأمن للطُّلّاب والطّالبات وأعضاء هيئة التّدريس في الجامعات الأمريكيّة لمُمارستهم حقّهم الدّستوري في حُريّة التّعبير والتّفكير الحُر، وهي، أي الولايات المتحدة، التي استخدمت “أُكذوبَة الحُريّات” كذريعةٍ لابتِزاز المملكة وحُكومتها وعزلها عن العالم، وتقديم هذه الفيديوهات “هديّة” إلى بلينكن ورئيسه بايدن.

والشّيء نفسه نقوله إلى المسؤولين الإيرانيين أيضًا التي فرضت الولايات المتحدة عُقوبات وحِصارًا اقتصاديًّا على بلادهم، ودعمت مُظاهرات داخليّة فيها بتُهمة مُصادرة الحُريّات، وقمْع الاحتِجاجات الشّعبيّة “السِّلميّة”.

لا نثق بالولايات المتحدة، ولا وعودها، ولا نَشُكّ مُطلقًا في دعمِها المُطلق الماليّ والعسكريّ والسياسيّ لدولة الاحتِلال وتدميرها الكامِل لقطاع غزة، للأسباب التي ذكرناها سابقًا، ولا يُخامرنا أدنى شك بأنّ قيادة “حماس” في القطاع التي أدارت، وتُدير المعركة بدهاءٍ عسكريٍّ وسياسيٍّ غير مسبوق، وحقّقت المُعجزات وغيّرت كُل المُعادلات لا تعرف كُل هذه الحقائق، وما هو أكثر منها، وسنحترم قرارها بشأن “اتّفاق الهدنة” المطروح على الطّاولة، فأهْلُ غزّة، ومُقاومتها، أدرى بشِعابها وأنفاقِها.. والنّصرُ صَبْرُ ساعة وربّما أكثر.. واللُه أعلم.

المصدر: رأي اليوم