محمد حسين هيثم الشاعرُ جسرٌ بين جيلين ومدينتين وحلمين! محمد عبدالوهاب الشيباني

529

(1)

  العمر القصير الذي عاشه محمد حسين هيثم– نوفمبر/ تشرين الثاني 1958، عدن- مارس/ أذار2007، صنعاء- لم يقف حائلًا أمام تشكُّله كصوت شعري مختلف وباذخ في خارطة الشعرية اليمنية المعاصرة، فإخلاصه للشعر، وهضمه الواعي لتجاربه العربية المتنوعة في المشرق والمغرب، جعلته يقف في موقع متقدم في صف الحداثة وحساسيتها الشعرية، حتى مع بقاء اليمن -آنذاك– في هامش قصيّ في ثنائية المركز والأطراف في ذروة التأسيس لتجربته في الكتابة الشعرية التي ولدت مطلع ثمانينيات القرن العشرين، لتصير خلال ثلاثين عامًا عنوانًا لافتًا لتجارب الحداثة الشعرية في اليمن، والتي سبق وعبَّرت عن خطابها وتقنيتها الكتابية أصواتٌ رائدةٌ في جيل السبعينيات الشعري، صارت -هذه الأصوات- مع مرور الوقت، الذاكرة الحية للشعرية الجديدة في تشكلاتها المتمردة؛ لأن المغامرات العديدة التي أقدمت عليها قامت على “الانتهاكات” الواعية للشكل الشعري التقليدي، وخلخلةِ ثباته لصالح أشكال أكثر حداثة، بدأت تفرض نفسها بقوة داخل المدونة الشعرية العربية المعاصرة؛ أما العقد الحاضن لهذا الجيل بأسمائه المؤثرة أمثال: “عبدالرحمن فخري، عبدالودود سيف، حسن اللوزي، عبدالله قاضي، عبدالرحمن إبراهيم، زكي بركات”، فكان هو الآخر الممر الواسع للخطوات الأولى لتجارب العديد من الشعراء الشبان آنذاك، الذين سيحسبون لاحقًا على جيل الثمانينيات الشعري، ومنهم محمد حسين هيثم الذي “تقدم زملاؤه كلهم في تكريس صوت مميز ضمن تجربة كتابة “قصيدة النثر” نوعًا وكمًّا، فقد ضم ديوانه الأول مطلع الثمانينيات تجارب ناضجة في قصيدة النثر، التي تقوم على التكثيف والقصر، واستضافةِ آليات السرد كالحوار والتسميات وتثبيت الأمكنة ورسم الشخصيات “كما ذهب إلى ذلك الناقد حاتم الصكر، والذي يذهب أيضًا في تحليله لنصه المدروس في كتاب “الثمرة المحرمة” والمعنون بـ”صنعاء” أن هيثم يتخذ من نص المدينة بؤرة لتوليد صورة، وهو “يبدأ من صنعاء التي لا بحر فيها ليقترح لها بحرًا، ويجعل تكراره لازمة إيقاعية تفصل بين تطور بنية النص وتصاعدها الإيقاعي والدلالي، ولكن المدينة التي يقترح لها بحرًا تقف في مواجهته أي بمقابلة الذات المتلفظة في النص”. المدينة الفيزيقية هذه التي لا بحر لها، هي غير تلك المدينة الميتافيزيقية التي بشَّر بها عبدالعزيز المقالح قبل عشرين عامًا من وفاة هيثم في كتابه “البدايات الجنوبية”، وهو يقرأ ديوانه الأول “اكتمالات سين”، حين قال: “عندما يصل الشاعر مع نفسه إلى ذلك الموقف، فإنه يذهب إلى مدينة الشعراء، ويظل يدق الباب وحين يدخل إلى المدينة، يبدأ في السؤال: “وأسأل من يريد قصيدة/ وأقول هذا القلب مقلاعي/ وصمتي طلقة أولى”، وبعد عشرين عامًا -أي بعد وفاته- سيكتب المقالح: “ظهر في مدينة الشعر مكتملًا، وكان ديوانه الأول تعبيرًا عن ذلك الاكتمال والنضج المبكر”.

  الجيل الثاني الذي كان هيثم أحد أدوات التجسير الكبرى إليه هو جيل التسعينيات، الذي سُلِّط على أصواته المتعددة واستشكالاته القوية، الكثير من الضوء من داخله ومن خارجه؛ لأنه سعى وبقوة للتخلص من جملة التراكمات التي أثقله بها جيلان شعريان سابقان عليه، فسعى إلى التعبير عن حضوره بمغامرات عدة، منها الكتابة بدون مسبقات مرجعية وأبوية وبعيدًا من لافتات المشاريع الكبرى، والطفح الأيديولوجي الذي ظهر جليًّا في غنائيات الشعراء المحسوبين على العقدين السابقين له. ومن هنا يمكن القول: إن تجربة هيثم في الكتابة الشعرية هي واحدة من الشواهد الواضحة على ثلاثة أجيال شعرية تعايشت معها، وعبرت عن اتجاهاتها الفنية، بل وقُدمت في محطات مختلفة كتعبير ناضج لأساتذة الشاعر من السبعينيين، ومجايليه من الثمانينيين، وتلامذته من الشعراء التسعينيين وما بعدهم في اليمن.

مجموعته الشعرية الثانية “الحصان”، التي صدرت بعد وقت قريب من صدور مجموعته الأولى، هي أيضًا تصير تعيينًا واضحًا للصوت الغنائي الصاخب لجيل الثمانينيات

   وقد تنبه الدارسون باكرًا للصوت الذي حمله محمد هيثم منذ بداياته الأولى في خارطة الكتابة في شمال البلاد وجنوبها، وشجعهم على ذلك خصائص عديدة مثلها هذا الصوت، الذي بدأ يتلمس حضوره من اللحظة الغنائية العالية التي كان يقترحها جيل الثمانينيات الشعري، لكنه في اللحظة ذاتها انتقل بالنص إلى مساحات جديدة من التجريب داخل الشكل ذي المنزع المتمرد. الاحتضان الباكر لهذا الصوت ورعايته من شاعرين عربيين مهمين أقاما في مدينة “عدن” مطلع ثمانينيات القرن الماضي وأعني “سعدي يوسف” و”جيلي عبدالرحمن”، لعب دورًا فاعلًا في توجيه هذه الطاقة نحو المغايرة منذ البداية.

(2)

  في مجموعته الشعرية الأولى، التي حملت عنوان “اكتمالات سين” (1983)، سيجد الدارس أنها قدمت صاحبها في تشكلاته الأولى، وبكل ما وقع من تأثيرات في صوته الخاص. فسنوات السبعينيات -كمرحلة شعرية ضاجة- ستظهر في المجموعة، حاملة بما تماهى مع مزاجها وموضوعاتها. فالنص الذي حملت المجموعة الأولى للشاعر عنوانه وهو “اكتمالات سين”، نصًّا صاخبًا عكس دالة الثمانينيين اليمنيين على الأقل، في اشتغالاتهم على المرموزات التاريخية، والتماهي مع سير شخصيات وأماكن ورموز فاعلة في تاريخ اليمن؛ على نحو “علي ابن الفضل” و”منصور اليمن” (ابن حوشب)، ومن الأماكن مأرب، ومن الرموز إله اليمانيين القدماء “سين”، سيجد الدارس لهذه المجموعة أفكارًا كبرى وجهت شعراء تلك الفترة، ومنهم هيثم، لمقاربة موضوعات رُؤيوية بأساليب المغامرات النصية، التي اقترحتها فضاءات الكتابة المفتوحة على أفق الشعار الأيديولوجي ودواله.

  مجموعته الشعرية الثانية “الحصان”، التي صدرت بعد وقت قريب من صدور مجموعته الأولى، هي أيضًا تصير تعيينًا واضحًا للصوت الغنائي الصاخب لجيل الثمانينيات؛

 “سبع نساءٍ على حائطٍ/ فامرأة من ذهبْ/ وامرأة عذبتني/ على شرفة من لهبْ/ وامرأة دوَّرت في حشاي قصيدتها/ وامرأة لوَّنت برهتي بالتعبْ”. حتى وإن انشغلت قليلًا بالموضوع السياسي وتأويلاته، فسنقرأ، على سبيل المثال، في نص “الحصان” الذي حملت المجموعة عنوانه:

 “وحيدًا ستمضي/ سينفضّ عنك الذين ارتموا/ في بريق خطاك/ سينفض كل الذين ارتووا/ في صهيل هواك/ سيهرع كلٌّ إلى عطفةٍ/ أو دروبٍ مناوئةٍ/ أو حصانٍ سواك”. 

  المرحلة الصنعائية في تجربة هيثم التي ابتدأت زمنيًّا في العام 1987، حين صعد إليها من عدن، بعد أحداث 13 يناير الدامي وسيدفن فيها، بعد ثلاثين عامًا في 2007، من هذا الصعود، يمكن تمثيلها بذات النص الذي حمل اسمها، وسبق الإشارة إليه فيما كتبه الناقد حاتم الصكر في كتاب “الثمرة المحرمة”، ومؤرخ في ذات عام صعوده إليها: “أقترح بحرًا/ فأرى صنعاء/ تفاحة تتأرجح على الحافات البيضاء/ تفاحة يقضمها المطر/ على الأرصفة”. 

تبلغ تجربة محمد حسين هيثم الشعرية ذروتها مع صدور مجموعته الرابعة “رجل ذو قبعة ووحيد” مطلع الألفية الثالثة، ليس فقط مع موضوعاتها شديدة الترميز والسخرية، وإنما في تقنية الكتابة التي اعتمدها

   في مرحلة صنعاء أصدر مجموعته الثالثة “مائدة مثقلة بالنسيان” في العام 1992، عن طريق اتحاد الكتاب العرب في دمشق، وفيها استعاد عدن في نصين متباينين أسلوبيًّا وتقنيًّا؛ الأول تعنون بكلمة واحدة “عدن”، وقوامه أحد عشر كلمة “يذهب الصبية الناحلون إلى زرقة مشتهاة/ إنهم أوَّلُ البحرِ/ وأنا منتهاه”. استعادة عدن هنا ستكون ببحرها، ولن تُجبر الشاعر على اقتراح بحر لها، كما لصنعاء؛ والثاني بعنوان طويل أشبه بتقرير حالة عن عدن التي ستصير في العنوان والنص الأطول في المجموعة “على بعد عشرين ألف ظلام وسبع حروب”:

  “وتعودين/ من كل موتٍ تعودين/ تيَّاهةً/ مشتهاةً/ تشبيِّن في كل منعطفٍ داكنٍ/ ثم تنفلتين رياحًا/ رياحين تجهش بالصحو/ أنتِ المدمَّاة/ ضاحكة الجرح تأتين”. 

   ستبلغ تجربة محمد حسين هيثم الشعرية ذروتها مع صدور مجموعته الرابعة “رجل ذو قبعة ووحيد” مطلع الألفية الثالثة، ليس فقط مع موضوعاتها شديدة الترميز والسخرية، وإنما في تقنية الكتابة التي اعتمدها، وعنونة النصوص التي ستعتمد في أغلبها الصياغات المطولة غير التقريرية “حمل الكلام حقوله وجراره، رجل ذو قبعة ووحيد، ثلاث مقترحات بقصيدتها في دمه، بأية أحزان ستفتتح الرقصة، أين تمضي بأيامنا يا غزال”.

   في مجموعة “رجل كثير” ستستعاد عدن من جديد وكأنها الحنين المقدس الذي لم تنطفئ جذوته، والذي سيسكبه كوصية في ذاكرة ولده هيثم، الذي ستهدى له القصيدة: “حملنا إلى عدن/ وردة من ضحى عاثرِ/ وانتخبنا لوردتها امرأة/ ثم قلنا أنأوي إلى امرأةٍ أو مرايا؟/ ضحكنا/ وكنا اتكأنا على عدنٍ/ وانتقينا لأزرقها جعةُ وصبايا”.

  أما في مجموعة “استدراكات الحفلة”، وهي المجموعة الأخيرة التي صدرت في حياته عام 2002، ستكون تجربة الشاعر قد وصلت إلى نضجها الفني والرُّؤيوي، مقدمة الشكل الفاعل في الخطاب والقادر على إيجاد صيغ حلولية بين أكثر الأفكار تباعدًا في المنطق وتقريبها إلى مساحة مقبولة في التجانس الفني. التمثيل لطرحٍ مثل هذا سينبني على التساؤل الآتي: ما الذي سيجمع بين فيلم أميركي باذخ حصد العديد من جوائز الأوسكار، حال ظهوره قبل سنوات، وأعني فلم «إنقاذ الجندي رايان» وبين السنوات الأربعين التي يرثيها الشاعر، حتى إن قدمها بطرائق «التمويه» التي يقترحها العنوان، وبين “الاستعادات” المُرّة لجيش القتلة وهم يتقاطرون من حروبهم اللامرئية في عتمة “النوستالجيا”؟! الذي سيجمع بين هذه الانفلاتات هو عنوان جامع اسمه “حروب دائخة”.

  تكشُّفات هذا النص تمنح القارئ مساحات متعددة للإسقاط القرائي، إحداها ما يتصل بمقتربات السيرة التي أراد الشاعر وضعها في عتبة التلقي، التي تبدأ مع استخدام ملفوظ “كل صباح”، وما لحق به من فعل الاستمرار الذي ينجزه الشاعر بالتكرار ذاته. سيرة لا تنبني على الحادثة وتموضعها في سياق الحكاية المشاعة، بل ستتحرك في المساحة الأكثر التماعًا للكتابة، والقادرة على استحضار سيرة المكتوب عنه بوصفه مجموعة من المرموزات الفاعلة لسيرة أي شخص بما فيها الأم، التي تتحول إلى متراس بدوّ، لمجرد أنها تستعيد من بين الركامات حبلًا سريًّا مهترئًا. وفي هذه المجموعة ستحضر “صنعاء” تلك التي سيقترح لها بحرًا، حتى يستطيع بواسطته استعادة “عدن”، وستحضر أيضًا حضرموت “الأحاجي/ حضرموت الوقت الملغز/ حضرموت التي رتبت بحرًا/ وسهلًا/ وجبلًا/ وخرجت كعشبة مجنونة/ تسوط الصحراوات / بالندى البحري/ والمراكب الحجرية”.

  وفي مجموعته الشعرية الأخيرة التي صدرت بعد وفاته مباشرة 2007، وحملت عنوان “على بعد ذئب” أرادها أن تكون تنويعًا راقيًا لأسلوبيات الكتابة التي اعتمدها في مسيرته التي امتدت لثلاثة عقود. فالوزنية المتخلصة من المفردات اللاشعرية السائبة والزائدة، حضرت إلى جانب النصوص اللاوزنية المنفتحة على أفق الأفكار الممسكة بأحجار الحكمة، وتقطيرًا لتجربة الحياة بكل أنوائها التي قد تكثفت في نهاية المطاف على هيئة ذئب في الطريق الموحش، ذئب ليس له سوى عواء الموت أو مخالب الجحود اللذين تربصا به قبل أن تطأ قدمه عتبة الخمسين. إنها التجربة المميزة الأكثر اكتمالًا في المدونة الشعرية اليمنية المعاصرة، التي هي بحاجة إلى مقاربات نقدية أكثر عمقًا، بعيدًا من انفعالات الذكرى وسيلان العاطفة.