كيف أدار الوفد الوطني مفاوضات الاستقلال قراءة في مضابط استقلال جنوب اليمن 22-29 نوفمبر 1967

348


د. أسمهان العلس*

الأرشيف البريطاني

 في الفترة من 22-29 نوفمبر 1967، اجتمع في جنيف وفدا الجبهة القومية والمملكة المتحدة للتفاوض بشأن الاستقلال الوطني. وقد ترأس الوفد الوطني قحطان الشعبي، كما ضمّ لجانًا فنية عسكرية ومالية وقانونية، وترأس اللورد شاكلتون الوفد البريطاني. وفي الاجتماع التمهيدي بين الوفدين تم الاتفاق على مسودة التفاوض، التي شملت “نقل السيادة لكل أجزاء الإقليم والجزر التابعة له والاعتراف بالحكومة الوطنية الجديدة، وانضمام الدولة الجديدة إلى الأمم المتحدة، وتحديد يوم الاستقلال والمعاهدات والاتفاقيات السابقة وتبادل العلاقات الدبلوماسية والشؤون المالية والاقتصادية المتبقية لميزانية عامي 1967 و1968، وتغطية العجز المتوقع في الخدمة، والتعويضات المالية لبعض المسؤولين الأجانب، والتعويض المالي الذي كانت موعودة به حكومة الاتحاد، والمساعدة الفنية، والعملة والقروض لمشاريع التنمية، والتجارة، والوثائق والتقارير والدراسات المتصلة بالبلاد”.

    وفي اليوم الأول لتلك المفاوضات، وقبل بدء الجلسات الرسمية لها، فاجأ وفد المملكة المتحدة الوفد الوطني “أن بلاده قد اتخذت قرارها في يوم 15 نوفمبر 1967، بتسليم جزر كوريا موريا إلى سلطان مسقط وعمان. وترتب عن استقطاع الجزر من أصل الإقليم نقل السلطة والسيادة ناقصتين إلى الدولة الوطنية الجديدة. وترك الموقف البريطاني أثره على جدول الأعمال، وعلى سير هذه المفاوضات. وقد اجتهد وفد الجبهة القومية بالمطالبة بتلك الجزر، مستندًا على كم هائل من المعلومات التاريخية، وامتدت المفاوضات حولها منذ اليوم الأول لها (الأربعاء 22 نوفمبر) حتى اليوم الثالث (الجمعة 24 منه). وبسبب شدة النقاش بين الطرفين اضطر الوفد البريطاني إلى قطع المفاوضات والسفر إلى لندن للتشاور مع حكومته. إلاّ أن الموقف البريطاني ظل متعنتًا، وطلب من الوفد الوطني اللجوء إلى الأوساط العربية والدولية للمطالبة بحقه الوطني. لكن رئيس الوفد الوطني “أعلن أن وفده لم يأتِ ليناقش امتداد حدود الإقليم. كما لا يعتبر قرار الحكومة البريطانية قائمًا على سبب عادل.  وأن وفد الجبهة القومية يسجل إصراره الرسمي بأن جزر كوريا موريا جزء لا يتجزأ من منطقة الجنوب اليمني المحتل، وأن السيادة الوطنية للإقليم بسبب الموقف البريطاني ستعتبر ناقصة. واعتبر رئيس الوفد الوطني أن بريطانيا لا تسعى لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، ودعا وفد المملكة المتحدة إلى فرصة أخرى لإعادة النظر في قرارها غير القانوني المناقض لقرارات الأمم المتحدة، ومع طرق إدارة هذه الجزر منذ احتلال بريطانيا لعدن وحتى انعقاد هذه المفاوضات. وطالب الوفد الوطني وفدًا من المملكة المتحدة عدم طرح المشكلة في البرلمان حتى الوصول إلى حل عادل لهذه القضية”.

    وقد استند موقف وفد الجبهة القومية في أثناء المفاوضات على إثبات أحقيته بالجزر على قاعدة المبادئ الأساسية لثورة 14 أكتوبر، كما حددها ميثاقها الوطني الصادر في يونيو 1965، الذي نص على “تصفية القواعد وجلاء القوات البريطانية الاستعمارية عن أرض الجنوب قاطبة، بما فيها الجزر التابعة لها، دون قيد أو شرط، واعتبار جنوب اليمن المحتل يتكون جغرافيًّا وسياسيًّا من ما يسمى بالمحميات الشرقية والغربية وجزر كوريا موريا وكمران وميون وسقطرى، وجميع الجزر الواقعة على الساحل المقابل للمنطقة وتجزئته إلى كيانات أو حجز لهذه الجزر أو استخدامها كقواعد حربية احتياطية، يعتبر انتقاصًا سافرًا لحرية شعبنا في الجنوب”. 

على الرغم من تسجيل الوفد الوطني تحفظه إزاء تسليم بريطانيا جزر كوريا موريا لسلطان مسقط حينها، إلا أن وثائق المفاوضات لم تشمل ذلك التحفظ، مما سمح للآراء المعادية للجبهة القومية بالتشكيك بدورها واتهامها بالخيانة

    وأكد ذلك الوفد في تصريحاته الصحفية الصادرة عن مؤتمراته، التي عقدها قبيل بدء المفاوضات، الاتجاهاتِ الأساسية التي ستدور حولها تلك المفاوضات، وأهمها “تحقيق الاستقلال وتسليم السيادة للحكومة الوطنية، ورفض الانضمام إلى الكومنولث، وعدم التفريط بأي جزء من أراضي الجنوب وجزره. واستند دور ذلك الوفد من تلك المسألة على قاعدة من الوضوح التاريخي والقانوني فيما يتعلق بأحقيته بتلك الجزر”.

    وعلى الرغم من طلب الوفد الوطني تسجيل تحفظه حول القرار البريطاني من خلال نص صريح تحتويه الوثائق التي ستصدر عن تلك المفاوضات فيما بعد، إلّا أن هذه الوثائق لم تشمل ذلك التحفظ، فيما عدا مضابط الجلسة الرابعة لتلك المفاوضات؛ مما أبهت الدور الإيجابي للوفد من هذه القضية، وسمح للآراء المعادية للجبهة القومية بالتشكيك بدورها أثناء المفاوضات واتهامها بالخيانة، واعتبار موقفها متناقضًا مع أهداف ثورة 14 أكتوبر.

   وفي يوم الخامس والعشرين من نوفمبر 1967، تواصلت جلسات المفاوضات حول، لمناقشة المسألة المالية والدعم الممكن تقديمه للدولة الجديدة، في جلستين صباحية ومسائية. وأعلن الوفد البريطاني “أن الالتزامات البريطانية للمملكة المتحدة تجاه حكومة الاتحاد مشروطة بالظروف السياسية في الإقليم، وبالثقة بالنظام السياسي، وبتحسن الوضع المالي لبريطانيا نفسها. ورفض الوفد البريطاني “دفع المبالغ غير المدفوعة من ميزانية 1967-1968، واعتبر نفسه قد دفع التزامه حتى ديسمبر 1967، ومستعد للدفع على الحساب لثلاثة أشهر حتى تحدد الجبهة القومية احتياجاتها الفعلية. وأن المبلغ الموعودة به حكومة الاتحاد قد صرف في الأصل منذ 1966، لشراء معدات للجيش خلال عام 1966”.

     واعتبر وفد الجبهة القومية الموقف البريطاني من المسألة المالية تنصلًا آخر من الحكومة البريطانية تجاه التزامها الأخلاقي للإقليم. وأعلن الوفد “أنه كان يعتقد أن الصعوبة الوحيدة هي قضية كوريا موريا، لكن برزت صعوبة جديدة تمنع وصول المفاوضات إلى أي اتفاق. وإذا كان موقف بريطانيا قد تقرر مسبقًا، فإنه يعجب لماذا جاؤوا إلى المؤتمر. وأن على بريطانيا أن تعلن بأن الدعم المالي كان لحكومة الاتحاد وليس للبلاد، واعتبر هذا الوفد المساعدات التزامًا أخلاقيًّا على بريطانيا دفعه للحكومة الجديدة”. 

    لقد مثلث المسألة المالية في مفاوضات الاستقلال عقبة جديدة في طريق تلك المفاوضات بغرض عرقلة تأسيس وتثبيت النظام الوطني في إقليم جنوب اليمن. فقد أخلت الحكومة البريطانية بوعودها السابقة للحكومة الاتحادية، وكأن ذلك العون كان مقترحًا للحكومة الاتحادية، وليس للإقليم بشكل عام كعون تعويضي عن استنزاف خيراته على مدى 128 سنة.

    وعلى الرغم من الاتفاق بين الوفدين في مفاوضات الاستقلال على “استمرار المساعدة المالية الحالية للأغراض المدنية والعسكرية والمقدرة بـ12 مليون جنيهٍ إسترلينيّ لمدة ستة أشهر، ابتداءً من الأول من ديسمبر 1967″(84). إلّا أن الوفد البريطاني أعلن في المفاوضات المالية التي استُؤنفت بعد الاستقلال في أبريل 1968 في عدن “عن اعتذاراه لتقديم مليون وربع جنيه إسترلينيّ على أقساط لمدة عام من المبلغ المقترح للمساعدة -12 مليون جنيهٍ إسترلينيّ– معتبرة أن هذا المبلغ قد استقطعت منه قيمة فواتير لأجهزة عسكرية ومصروفات عسكرية وفواتير لأغراض غير عسكرية ومبالغ معاشات ومدفوعات خارجية”. 

    وأنهى الوفدان اجتماعاتهما بشأن الاستقلال في يوم 29 نوفمبر 1967. وصدر عن هذه الجلسات مذكرة النقاط المتفق عليها بشأن استقلال الإقليم. واحتوت هذه المذكرة على المسائل التي تم الاتفاق عليها بين الوفدين، وجاء فيها: “أن ينال الجنوب العربي الاستقلال في يوم 30 نوفمبر 1967، وتنشأ في يوم الاستقلال دولة مستقلة ذات سيادة تعرف باسم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وتقام علاقات دبلوماسية كاملة بين المملكة المتحدة وجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، ابتداءً من يوم الاستقلال، وتتشاور حكومة صاحبة الجلالة وحكومة الجمهورية تصريحًا بشأن جميع المعاهدات والاتفاقيات الأخرى التي تنطوي على التزامات دولية، وتنظر حكومة الجمهورية في مسألة التقدم بطلب العضوية في الأمم المتحدة”.


وصف الوفد الوطني موقف بريطانيا من قضايا المفاوضات “أنه تعبير عن عدم رغبتها في نشر السلام في المنطقة، وهي مسالة مهمة للدولة الجديدة التي ترغب في بناء علاقات جوار حية في المنطقة، كضمان لأمنها واستقرارها وتنميتها”، وهو توصيف دقيق

    كما صدر عن المفاوضات مذكرة مالية جاء فيها: “أن الوفدين اتفقا على مواصلة المفاوضات حول المساعدة بعد الاستقلال”. ووافق الوفد البريطاني على وجوب استمرار المساعدة المالية الحالية للأغراض المدنية والعسكرية وتبلغ هذه المساعدة اثني عشر مليون جنيهٍ إسترلينيّ، لمدة ستة أشهر، ابتداءً من الأول من ديسمبر 1967. كما صدر عن المفاوضات بيان ختامي، عكس المسائل الأساسية التي دارت حولها المفاوضات، وتضمن هذا البيان “مسائل إنهاء السيادة والحماية لصاحبة الجلالة للإقليم، ونقل السيادة للدولة الجديدة، وإقامة علاقات دبلوماسية، ومواصلة المفاوضات حول المساعدة المالية بعد الاستقلال”(96).

    لقد وصف الوفد الوطني موقف بريطانيا من قضايا المفاوضات “أنه تعبير عن عدم رغبتها في نشر السلام في المنطقة، وهي مسالة مهمة للدولة الجديدة التي ترغب في بناء علاقات جوار حية في المنطقة، كضمان لأمنها واستقرارها وتنميتها”، وهو توصيف دقيق، فقد واجهت هذه الدولة حروبًا ثلاثة مع جيرانها منذ استقلالها. 

   ووفقًا لما تم الاتفاق عليه في مفاوضات الاستقلال في جنيف بشأن استكمال المفاوضات المالية بعد الاستقلال، انعقدت في عدن في النصف الثاني من شهر أبريل 1968، المفاوضات بين الوفدين، وترأس وفد الجمهورية وزير الخارجية سيف أحمد الضالعي، وترأس وفد المملكة الوكيل المساعد في وزارة الخارجية بيرمونت، وامتدت المفاوضات من 21 أبريل حتى 26 منه. ونتج عنها أنْ “قَطَعَ الوفد البريطاني المفاوضات، وأعلن أنه يحمل تعليمات محددة من حكومته؛ طَلَبَ العودة إليها للتشاور. فيما أصدر وفد الجمهورية بيانًا رسميًّا أعلن فيه “أن المفاوضات كانت دقيقة، وعلى ضوئها ستحدد العلاقة بين البلدين! وأن بريطانيا قد تنكرت لالتزاماتها تجاه المنطقة. وبدلًا من دفع ستين مليون جنيهٍ إسترلينيّ، عرضت بريطانيا مليون جنيهٍ في أثناء مفاوضات جنيف، لكنها عادت في عدن للتنصل عنها.

    إن النقاش المسجل في مضابط مفاوضات الاستقلال، لا يدع مجالًا للشك بالتزام الوفد الوطني بالسيادة الوطنية، ورفضه للأحلاف العسكرية والسياسات في الوقت الذي عكست المفاوضات أهداف بريطانيا بعد الاستقلال في المنطقة وفقًا لتطلعاتها القومية ومضامين هذه الأهداف التي ترسمها. ونتج عن هذه المفاوضات -الأولى والثانية في كلٍّ من جينيف وعدن- في الأوساط العامة موقفًا وتحليلًا قاصرين لما دار في أوساط المفاوضات، بل والحكم السريع على معطيات الموقف الوطني في أثناء التفاوض حتى اليوم. وفي الوقت الذي قدم الوفد الوطني نفسه مؤمنًا بأهداف ثورته الوطنية، متسلحًا برؤيته لماهية الدولة الوطنية التي يسعى لبنائها، فإن بريطانيا قد رأت في الدولة الجديدة طرفًا غير حليف وغير أمين على التعاون معها ولا على رعاية المصالح البريطانية في المنطقة بعد الاستقلال. ولعل أوضاع المنطقة اليوم تعكس حقيقة مجريات الأوضاع منذ 1967 وحتى اليوم، وهي سنوات تتطلب الدراسة المتأنية وعدم الفصل بين أحداثها، وفقًا لسنة التاريخ ومعايير التحليل التاريخي.

* أستاذة مشارك في كلية الآداب- جامعة عدن. حاصلة على دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر من معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة. أشرفت على عدد من الرسائل العلمية، كما نشرت خمسة كتب علمية في التاريخ الحديث ودراسات المرأة، ولها عدد من أوراق العمل والمقالات العلمية حول قضايا المرأة والتاريخ والثقافة والحكم الرشيد وبناء القدرات.