هل تنتهي هيمنة “الدولار” على الإقتصاد العالمي.. “تقرير“..!

5٬800

أبين اليوم – تقارير 

شهدت السنوات القليلة الماضية، وبالأخص مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ارتفاعاً ملحوظاً للأصوات الداعية إلى “التحرر” من هيمنة عملة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي، وقد ترافقت هذه الدعوات مع توجهات ملفتة من جانب بعض الدول للبحث عن بدائل، وبالرغم من أن نسب احتياطي الدولار الأمريكي في البنوك تظهر انخفاضاً تدريجياً يقابله صعود بطيء لعملات أخرى..

وهو ما يمثل مؤشراً واضحاً على أن الأمر يتحقق بالفعل، فإن الخبراء يتحدثون بحذر شديد عن إمكانية إزاحة الدولار عن عرشه، ولكنه حذر يتعلق فقط بتقدير الوقت اللازم لتحقق تلك الإمكانية، وليس باستحالتها.

كانت مسألة إحترام سيادة الدول الاقتصادية أحد أهم العوامل التي ساهمت في القبول بالهيمنة الأمريكية الاقتصادية، كونها وضعت لنفسها بعض الخطوط الحمراء التي لا تتجاوزها، الأمر الذي حقق نوعاً من الاستقرار والاطمئنان الاقتصادي حتى لدى خصوم واشنطن ودفع بهم للاستثمار، على سبيل المثال، في السندات الأمريكية، حتى أن الصين- أكبر أعداء الولايات المتحدة الاقتصاديين- كانت إلى وقت قريب تمتلك أكثر من 1.2 تريليون دولار من السندات الأمريكية.

كما أن حالة الطمأنينة تلك جعلت خصوم الولايات المتحدة أيضاً، على رأسهم الصين، مجدداً ينمون احتياطاتهم من الدولار ويستمرون في التجارة العالمية بالدولار، بدون التفكير في تغيير ذلك.

ما الذي تغيَّر؟:

منذ بدايات القرن الحالي بدأت الولايات المتحدة تستخدم الدولار كسلاح، لاستهداف خصومها ولاحقاً حلفائها بوتيرة متصاعدة وغير مسبوقة، بالإضافة إلى إستخدامها نظام التحويلات المالية “سويفت” هو الآخر كسلاح لمعاقبة خصومها مثل الصين وروسيا وإيران، غير أن ذلك وإن ساهم في خلق التفكير بالبدائل إلا أنه ظل محدوداً ولم يتحول إلى المستوى الذي هو عليه اليوم.

مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية أقدمت الولايات المتحدة على خطوة، ربما هي الأكثر تأثيراً وإثارة للمخاوف حتى لدى حلفائها، عندما كسرت إحدى أهم القواعد التي وضعتها بنفسها بإعلانها تجميد الاحتياطات الروسية في الخارج، والتي تزيد عن 300 مليار دولار، وانتهكت بذلك مبدأ السيادة الاحتياطية والمالية للدول؛ الأمر الذي أثار الهلع في العالم ودفع بالصين للتخلص من السندات الأمريكية بوتيرة عالية، بتخفيضها إلى أقل من 900 مليار دولار، بعدما كانت تملك سندات بأكثر من 1.2 تريليون دولار.

صحيح أن الصين بدأت بالتخلص من السندات الأمريكية منذ مدة، لكن التخلص من تلك السندات ارتفع بنسب قياسية منذ قيام الولايات المتحدة بتجميد احتياطيات روسيا فور اندلاع الحرب بين الأخيرة وأوكرانيا.

لماذا الحاجة إلى التخلص من هيمنة الدولار؟:

الفكرة أن هيمنة الدولار الأمريكي لا ترضي أحداً، لأن هذه الهيمنة لها تأثير اقتصادي سلبي على الآخرين، فضلاً عن السبب الأكثر حضوراً في الأذهان وهو أنها تمثل “سلاحاً” خطيراً بيد الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي تعبر عنه بوضوح “العقوبات” التي تشير تقديرات إلى أن عدد سكان الدول التي تخضع لها يصل إلى ملياري نسمة، ما يجعلها كابوساً عالمياً.

وفي هذا السياق يرى أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفرد، كينيث روغوف، في مقابلة مع بلومبيرغ، أن “تسليح الدولار” بحسب وصفه، قد ينهي هيمنته في غضون 20 عاماً، لأن الدول الأخرى ستبحث عن بدائل..

مشيراً إلى أن قوة العقوبات على روسيا ستؤدي إلى “تسريع” التغييرات في النظام المالي العالمي، وبغض النظر عن الوقت المقدر هنا، فإن المقصد هو أن سلوك الولايات المتحدة الأمريكية قد جعل مسألة التوجه للحد من هيمنة الدولار ضرورة ملحة بالنسبة للآخرين.

تراجع مستمر للاحتياطيات الدولارية:

بحسب بيانات لصندوق النقد الدولي، التي رصدها موقع “يمن ايكو” فإن نسبة الاحتياطيات الدولارية للبنوك المركزية تمضي في إنخفاض مستمر، حيث انخفضت مع نهاية عام 2021 إلى 59% وكان ذلك يعتبر “أدنى مستوى منذ 20 عاماً”، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ انخفضت النسبة في نهاية عام 2022 إلى 58.3%، وهو أدنى مستوى منذ 27 عاماً.

وبمقارنة هذه النسبة مع نسبة عام 1999، والتي كانت تبلغ 71%، يمكن القول إن نسبة الاحتياطات الدولارية للبنوك المركزية تنخفض بمعدل يقارب 0,55% بشكل سنوي، إذا تجاهلنا التذبذبات التي تتخلل هذه العملية، وهو ما يعني بتقديرات حسابية فقط أن نسبة احتياطيات الدولار لدى البنوك المركزية قد تهوي إلى 50% في غضون 15 عاماً.

هنا يأتي حذر الخبراء في الحديث عن فكر “التخلص” من هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي، فالأمر وفقاً للأرقام يحدث بالفعل تدريجياً، لكنه قد يستغرق وقتاً أطول، فالانخفاض والارتفاع في النسب قد يتزايد ويتناقص وفقاً لعوامل أخرى، منها مثلاً حجم احتياطيات العملات الأخرى، وتزايد أو تناقص التعامل بهذه العملات في التجارة العالمية.

وفي هذا السياق، فإن اليوان الصيني يُظهِر تقدماً فيما يتعلق بحصته من احتياطيات النقد الأجنبي بالبنوك المركزية، حيث ارتفعت نسبة حصته من 1.08% في عام 2016، إلى 2.8% في عام 2022، علماً بأن اليوان لم يصبح أحد مكونات احتياطيات النقد الأجنبي للدول إلا في عام 2016، بعد مفاوضات بين الصين وصندوق النقد الدولي.

مساعٍ لـ”تحرير” التجارة الدولية:

برغم التراجع الواضح التي تظهره الأرقام فيما يتعلق بالاحتياطيات النقدية الدولارية، فإن التقديرات الحسابية لمستقبل تقلص هيمنة الدولار بشكل عام يصعب تحديدها بدقة، لأنها تتأثر أيضاً بحجم المساهمة في التجارة العالمية، حيث يتوقع تحليل لمؤسسة “أوراسيا ريفيو” الأمريكية، أن تنخفض نسبة حصة الدولار في الاحتياطيات النقدية إلى 40% في حال تراجع نسبة مساهمته في التجارة العالمية من 50% حالياً، إلى 33%.

ويرى الخبراء أن هذا الأمر بيد المنافسين الدوليين للولايات المتحدة الأمريكية، كالصين وروسيا، اللتين بدأتا فعلاً خلال السنوات القليلة الماضية باتخاذ بعض الخطوات، كإنشاء نظام التحويلات المالية “إس بي إف إس”، القائم على الروبل الروسي والذي يعمل كبديل لنظام “سويفت”، ونظام الدفع عبر الحدود بين البنوك “CIPS” في الصين، إضافة إلى تشكيل مجموعة “بريكس” التي تضم روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا، والتي تهدف لكسر هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي من خلال بدائل، من ضمنها إيجاد عملة موحدة للتعاملات بين دول هذه المجموعة التي قد ينضم إليها المزيد من الأعضاء مستقبلاً.

ومؤخراً، أعلنت الصين والبرازيل اتفاقاً للتعامل باليوان الصيني فيما بينهما للحد من الاعتماد على الدولار الأمريكي، فيما تعتزم الأرجنتين مع البرازيل أيضاً إنشاء عملة موحدة للتعاملات التجارية فيما بينهما، وهذه فقط نماذج لتحركات متصاعدة تندفع نحوها العديد من الدول لتحقيق الهدف نفسه: الحد من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي.

وبرغم أن الخبراء يؤكدون أن هذه التحركات سيكون لها تأثير مباشر على “سلطة” الدولار الاقتصادية، فإنهم لا يبالغون في تقدير حجم هذا التأثير، لأن التخلص من هيمنة الدولار لا يزال هدفاً بعيد المدى، كون الجزء الأكبر من دول العالم يمتلك احتياطيات كبيرة من العملة الأمريكية، وتخفيض قيمتها سيلحق خسائر بهذه الدول..

إضافة إلى أن هناك حاجة لإنشاء نظم تحويلات وتسديد عالمية بديلة تتطلب اتفاقيات جديدة وربما مؤسسات مصرفية دولية جديدة.

العقوبات الأمريكية تطال الحلفاء:

العقوبات الأمريكية على روسيا لم تصدم خصوم واشنطن فقط، بل حلفاءها أيضاً الأوروبيين والشرق أوسطيين، كونها أولاً انتهكت سيادة الدول الاقتصادية، كما حدث في روسيا بعدما ساهم مبدأ السياسة في استقرار الاقتصاد والتجارة العالمية، لكن ذلك لم يكن وحده الذي ساهم في خروج مخاوف الحلفاء الأوروبيين للعلن، فالولايات المتحدة سبق وعاقبت شركات أوروبية وإماراتية وعمانية، بحُجة انتهاك العقوبات الأمريكية على إيران.

وصحيح أن تلك العقوبات لم تصل للمستوى الذي حدث مع روسيا كسابقة جديدة في العالم، وما حدث للشركات الأوروبية كسابقة بين الحلفاء جعل الدول الأوروبية- على رأسها فرنسا وألمانيا- تشعر أنه بالإمكان أن تتعرض في يومٍ ما لمثل ما تعرضت له روسيا أو حتى أقل منه، ولكنه سيكون كارثياً، كل ذلك جعل خصوم وحلفاء واشنطن يتشاركون القلق والتفكير بنظام دولي متعدد الأقطاب، وإن تفاوتت نسبة القلق بين خصوم واشنطن وحلفائها.

في هذا السياق تقول “لو فيغارو” (Le Figaro) الفرنسية إن سيطرة العملة الأميركية على العالم بدأت تفقد زخمها مع تسليح الدولار منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، إذ كان للعقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا تأثير في النظم الاقتصادية والتجارية والمالية العالمية، على نحو أثار مخاوف في الأسواق العالمية بخصوص تعديل النظام المالي العالمي، وأضافت أن إحدى القضايا الرئيسة التي تخضع للمناقشة هي حالة الدولار الأميركي.

وفي مطلع أبريل 2022م بعد أقل من شهرين على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وإعلان العقوبات على موسكو، نشر موقع قناة CNN الأمريكية تقريراً بعنوان “بعد حوالي 80 عاماً من هيمنته.. هل الدولار الأمريكي في خطر؟” بدأته بالقول: “تمتلك الولايات المتحدة ربما الجيش الأقوى في العالم، ولكن أعظم سلاح لها هو الدولار.

الآن، بعد ما يقرب من 80 عاماً من هيمنة الدولار، قد تكون الولايات المتحدة في خطر فقدان مكانتها كعملة احتياط عالمية”، وفي إتفاق على أن تجميد الاحتياطيات الروسية وسع المخاوف العالمية من إستخدام واشنطن للدولار كسلاح، يقول التقرير إنه “مع القوة العظمى مسؤولية كبيرة: حين تستخدم سلاح دمار شامل، حتى اقتصادياً، يصاب الناس بالفزع”.

مضيفاً: أنه “قامت البلدان الأخرى بتنويع استثماراتها بعيداً عن الدولار الأمريكي إلى عملات أخرى لحماية نفسها من مصير روسيا”.

– أوروبا: واشنطن فقدت التمييز: لابد من البدائل:

إذا كانت هذه المشاعر قد تصاعدت مع ما حدث مؤخراً لروسيا إلا أنها لم تكن البداية؛ ففي سبتمبر 2018م نشر موقع قناة DW الألمانية تقريراً بعنوان “تفكيك هيمنة الدولار في عهدة أوروبا والصين” تطرق إلى أن العقوبات الأمريكية “تزداد قسوة ولا تميّز بين الصديق والعدو، وعليه يزداد عدد الدول التي تحاول التخلص من هيمنة الدولار على تجارتها الخارجية، ويبدو أن فرصتها جيدة لكسر سطوة هذه العملة على النظام المالي العالمي”.

ويشير التقرير إلى أنه “حتى حلفاء الولايات المتحدة يظهرون فقدان الصبر تجاه حروبها التجارية وعقوباتها الاقتصادية التي أضحت كابوساً لأكثر من عُشر دول العالم، وفي مقدمتها الصين وروسيا وتركيا والاتحاد الأوروبي. مضيفاً أن “هذه العقوبات التي لا تميّز بين العدو والصديق تدفع بالجهات التي تعاني منها للعمل على إقامة بدائل للنظام المالي العالمي الذي تهيمن عليه واشنطن من خلال سطوة الدولار على التحويلات المالية عبر العالم، والتي تتم بشكل رئيسي عبر نظام “سويفت”.

وعن موقف الاتحاد الأوروبي من تضرر دوله من العقوبات الأمريكية يقول التقرير إن “أبلغ الدعوات للحد من هيمنة الدولار ما ورد على لسان رئيس الاتحاد جان كلود يونكر، المعروف بصداقته مع النخبة السياسية في واشنطن. ففي خطابه أمام البرلمان الأوروبي في النصف الأول من سبتمبر/ 2018 دعا يونكر الاتحاد إلى وجوب اتخاذ الخطوات اللازمة لتعزيز مكانة اليورو في النظام المالي العالمي اعتباراً من 2019. ووصف يونكر تسديد أوروبا لنحو 80 في المائة من واردات الطاقة بالدولار الأمريكي بأنه “ضرب من المستحيل”.. وقال إنه: “من المضحك أيضاً قيام شركات الطيران الأوروبية بشراء طائرات أوروبية بالدولار وليس باليورو!”.

خلاصة القول: أمامنا حقيقة ثابتة هي أن الدولار يتراجع، ولدينا مؤشرات واضحة تؤكد أنه سيستمر بالتراجع، وطالما أن الدول المتضررة من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي تبحث عن بدائل، فإن التخلص من هذه الهيمنة سيبقى النتيجة المرجحة التي تتجه نحوها مختلف المؤشرات في المستقبل، وهذا الأخير هو المتغير الوحيد الذي يصعب تحديد مداه بدقة حالياً.

المصدر: يمن إيكو