التطبيع المستحيل بين ظاهرتي “شعبولا” و”نمبر- وَن”

227

شعبان عبد الرحيم في أغنية “أنا بكره إسرائيل” كان أكثر ذكاءً من محمد رمضان الشهير بـ”نمبر وَن”، الذي أصبح ظاهرةً فنيّةً شعبيّةً بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011.

تلاشت ظاهرة عدويّة في مطلع التسعينيات، ليحلّ مكانها
تلاشت ظاهرة عدويّة في مطلع التسعينيات، ليحلّ مكانها “ظاهرة شعبولا”

أثمر فنّ الغناء الشعبي في مصر العديد من المطربين المشهورين، تحوّل بعضهم إلى ظواهرَ فنيّةٍ وشعبيّة، برز منهم بعد ثورة يوليو/تموز في عهد النّاصرية، المحمّدون الأربعة: طه ورشدي وقنديل والعزبي، الذين التزموا بقضايا الشّعب، وعبرّوا عن وعي هذا الفنّ ووجدانه، وأعربوا عن آلامه وآماله، فغنّوا لفلسطين والزّعيم والثورة والوطن، مثال موّال محمد طه ” يارايح فلسطين حُوّد على غزة… تقعد مع أهل الكمال تكسب وتتغذّى”، وأُغنية محمد رشدي “يا أبو خالد يا حبيب… بكرا هتدخل تل أبيب”، وطرب محمد قنديل “ع الدوار ع الدوار… راديو بلدنا فيه أخبار… كنّا عبيد وبقينا أحرار”، وتغريد محمد العزبي “صباح الخير على بلادي… صباح الخير على أهلي”.

وبعد نكسة حزيران/يونيو، ووفاة عبدالناصر، وتوّلي أنور السادات الحكم، حدث الانقلاب السّياسي على القِيم الناصريّة بمضمونها الاشتراكي والقومي، وساد عصر الانفتاح الاقتصادي بسماته الاستهلاكية والتبعيّة واتّساع الهوّة بين الأغنياء والفقراء، وغاب المشروع الوطني والهدف القومي والرسالة الحضاريّة عن الدولة، فجاء الغناء الشعبي مُعبّراً عن هذا الواقع، وكانت (ظاهرة عدويّة) خير من يُمثّله.

ظهر المطرب الشعبي أحمد عدويّة في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين كالشبح في كلّ الحفلات والأفلام، وسُمِع كالصّدى في كلّ المقاهي والملاهي، ووُضعت أشرطته في كلّ وسائل المواصلات؛ ورغم تزايد انتقادات المثقّفين والفنّانين لأغانيه الرّديئة، ازدادت شهرته ومبيعات أشرطته في أوساط غالبيّة الشعب من البُسطاء والغلابة والكادحين، ورغم أنَّ أغانيه كعصره، خلت من المضامين الوطنيّة والسياسيّة، إلاّ أنّها عبرّت بمدلولاتها على هذا العصر، ومن أهمّها: انعدام المعنى “السح ادّح امبو”، وضعف الأخلاق “زحمة يا دنيا زحمة… زحمة وما عدش رحمة… مولد وصاحبه غايب”، وفقدان المعايير “كلّه على كلّه”، وغياب الهدف “أنا عايش والسلام… وبصحى زي ما أنام”، والنفعيّة الانتهازيّة” سيب وأنا أسيب”، والاغتراب عن الناس “أغراب يا دنيا”، والاغتراب عن الذات “ارجع إنسان… نقصاك حاجة وحشاك… ترجع إنسان”.

ورغم معاصرته لعهد التطبيع مع “إسرائيل”، لم ينضم أحمد عدويّة إلى جوقة المطربين المدّاحين للسادات ولعصر السلام المزعوم، ولم يُسجّل على نفسه أي إشارةٍ توحي بتأييده السلام أو التطبيع مع الكيان الصهيوني.

تلاشت ظاهرة عدويّة في مطلع التسعينيات، ليحلّ مكانها “ظاهرة شعبولا”، وهو المطرب الشعبي شعبان عبدالرحيم المُمثّل لجيل مطربي الميكروباصات في عصر حسني مبارك، الخالي من الملامح والأهداف، والمتميّز بالجمود السّياسي والانحطاط الفني، وتآكل الطبقة الوسطى لصالح طبقتين: أقليّةٌ مُترفة وأغلبيّةٌ بائسة، فجاء شعبان عبدالرحيم من وسط الأغلبيّة البائسة فتحدّث بلسان حالها، وقدّم سلسلةً من الأغاني الشعبية المُعبرّة عن وجهة نظر الطّبقة الشعبيّة الكادحة في الأحداث الجارية، بأسلوبٍ سهلٍ وبسيط، وبدون الالتزام بالمعايير الفنيّة للأُغنية، فغنّى لأزمة السكّر منتقداً الغلاء “الناس من الغلا بتلالي والشعب هيعمل ايه… أتريها لعبة سكّر ولعبة ناس كبار ونهب واحتكار”، وغنّى لفلسطين داعياً إلى الوحدة “عايزين فتح وحماس يتّحدوا من جديد… علشان القدس ترجع ونصلّي فيها العيد”، وغنّى ضد ترامب مُهاجماً سياسته تجاه فلسطين “ترامب خلاص تجنّن… محتاج يا ناس قفص… وكلّه يخلّي باله… لو عضّ أو رفس”، وتجاوب مع إحساس الشعب المصري بكراهية “إسرائيل”، باعتبارها العدو الأوّل للمصريين في أغنية ” أنا بكره إسرائيل” التي انتشرت كالنّار في الهشيم، فكانت السبب في شهرته الكبيرة.

شعبان عبد الرحيم في أغنية “أنا بكره إسرائيل” كان أكثر ذكاءً من محمد رمضان الشهير بـ”نمبر وَن”، الذي أصبح ظاهرةً فنيّةً شعبيّةً بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011، بما سادها من اضطرابٍ سياسي، وانهيارٍ اقتصادي، واغترابٍ ثقافي، وخواء فكريّ.

فكانت ظاهرة محمد رمضان النموذج الأكثر تعبيراً عن تدنّي الحالة العامّة، لاسيما الحالة الفنيّة، التي تخلّت بمجملها عن رسالة التّنوير والتّوعية، وهدف الارتقاء بالفكر والعاطفة، فروّجت للتفاهات والحماقات، وأشاعت العبث والسطحيّة، وشجّعت العنف والبلطجة، ونشرت المُسكرات والمخدّرات.

ورغم ذلك، فقد أصبح محمد رمضان القدوة التي يسعى إلى تقليدها الشباب من الطّبقة الدُنيا المسحوقة، بعد أن وجدوا فيه بطلاً يشبههم، ينتصر على الجوع والفقر والحرمان، بطريقةٍ شرعيّةٍ أو غير شرعيّة، لا يهمّ طالما أنّه “يقبّ على وجه الدينا”، ليجدوا مكاناً لهم تحت الشمس، ولو في الأفلام والأحلام، فاكتسب شعبيّةً طاغية، وقدّم قدوةً سيّئةً لهم، وأفسد الذوق العام، ورغم شعبيته الكبيرة في مصر وغيرها، إلاّ أنّها لم تشفع له عندما مسَّ أحدَ ثوابتهم الوطنيّة الرّاسخة وارتكب الحرام الوطني المصري، وهو التطبيع مع “إسرائيل”.

مشاركة الفنان محمد رمضان في الحفل التّطبيعي الإماراتي الإسرائيلي بدُبي، لم يكن عملاً عشوائيّاً، أو حدثاً عابراً، بل كان عملاً مُدبَّراً، وحدثاً مُخطّطاً له، قام به منظِّمو الحفل وأسيادهم، بهدف الاستفادة من ظاهرة “نمبر- وَن” لإيصال رسالةٍ للعرب عامّةً والمصريين خاصّةً، تخدم التطبيع من خلال إظهار العلاقات مع الإسرائيليّين كأنها شيءٌ طبيعي، فالأكل والضحك والرقص معهم والتقاط الصّور الثّابتة والمتحرّكة التي تُظهر ذلك، مطلوبٌ بشدّةٍ في هذه الحالة، للاستفادة من نظريّة “بافلوف” في التعلّم الشَّرطي، لتغيير الاتجاه الفكري والعاطفي نحو المُثير السلبي الإسرائيلي، ليُصبح إيجابيّاً مثل المُثير الأصلي، فتتغيّر الاستجابة السلوكيّة تجاه “إسرائيل”، باتجاه كسر الحاجز النفسي الذي يمنع التطبيع معها، ويقف كالصّخرة الراسخة أمام محاولات الكيان الصهيوني المتكرّرة الفاشلة لاختراق جدار صخرة العقيدة الثابتة لدى الشعب المصري والمُشبّعة بكراهية “إسرائيل”، تلك العقيدة التي عبّر عنها “شعبولا” في أُغنية “أنا بكره إسرائيل”، وعمل بنقيضها “نمبر وَن” من خلال مشاركته في الحفل التطبيعي بدبي”.

عقيدة كراهية “إسرائيل” المغروسة في وعي ووجدان المصريين عبّر عنها الشعب المصري بواسطة أُطره الشعبيّة العديدة، وفي مقدّمها النّقابات المهنيّة الرافضة للتطبيع مبدءاً وممارسةً، فتمنّع أعضاؤها عن المشاركة فيه، وأُنزِلت عقوباتٍ تأديبيّةً بالمخالفين له واعتُبر كلّ مشاركٍ حالةً شاذّةً عن الأصل، مما جعل مجرّد النّظر إلى التطبيع كمثل النّظر إلى الحرام، وفعله كفعل الحرام، الذي يُلزم مواراته وستره إذا خُفي، وتعليله وتبريره إذا عُرِف، والاعتذار والتّوبة عنه إذا فُضح، وربما هذا ما فعله محمد رمضان في مراحله الثلاث: ستره ثم تبريره ثم الاعتذار عنه، دون أن يمنع ذلك نقابة المهن التمثيليّة التي ينتمي إليها من إيقافه مؤقتاً عن العمل لحين انتهاء التحقيق معه إثر مخالفته إرادة الشعب المصري وقرارات النّقابة الرافضة للتطبيع مع الكيان الغاصب. هذا الموقف الوطني والقومي علّله للصحافيين عضو مجلس النقابة الفنان سامي مغاوري بقوله: “في دماء الشهداء عبر التاريخ في مصر يا جماعة… في ضحايا في مجزرة بحر البقر… والسويس… وأبو زعبل… وفي ناس ماتت عالجبهة… ما ينفعش”.

صدق الفنان الوطني سامي مغاوري “ما ينفعش”، فعلاً ما ينفعش الشعب المصري يُطبّع مع عدو الأمّة، بما يمتلك من فطرة سليمة، ووعي وطني، وحسّ قومي، وعاطفة دينيّة، ما ينفعش الشعب المصري بهذا التاريخ العريق والحضارة الأصيلة أن يقبل الاستحمار الذي قبل به حكّام الخليج ونخبتهم الطفيليّة العائشة على فتات موائدهم، الاستحمار الذي يفتح أبواب بلادهم للعقل اليهودي الخبيث بغية تشغيل المال العربي والأيدي العاملة العربية لتحويل الوطن العربي إلى جنّةٍ يعيش فيها الصهاينة أسياداً والعرب عبيداً، كما جاء في كتاب شمعون بيريز “الشرق الأوسط الجديد”، والجديد فيه هو كيفيّة تحقيق الحلم الصّهيوني بإقامة “إسرائيل الكبرى” بالمفهوم السياسي والاقتصادي، وهذا هو جوهر الاستحمار بمفهوم التّطبيع الذي يرفضه الشعب المصري العربي المسلم.