“تحليل“| كيف يعيد العقل الإصطناعي رسم خريطة العلاقات الدولية..!
أبين اليوم – خاص
تحليل/ د. نبيل أحمد الدرويش
لم يكن ظهور الذكاء الاصطناعي حدثًا تقنيًا فحسب؛ بل شكل ولادة “فاعل جديد” في العلاقات الدولية، لا يحمل جنسية ولا يرفع علمًا، لكنه يمتلك ما لم تمتلكه أي دولة من قبل. إنها القدرة على معالجة المعرفة وإعادة إنتاجها بسرعة تفوق العقل البشري.
وفي لحظة تتسارع فيها الخوارزميات، يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة قوة جديدة، تُعيد تعريف النفوذ والسيادة، وتفرض على العالم نظامًا أكثر غموضًا وتنافسية مما عرفته البشرية في القرون الماضية.
– القوة الإدراكية: البعد الثالث للقوة:
عرفت العلاقات الدولية تقليديًا شكلين من القوة هما: القوة “الصلبة” ويمثلها (السلاح والاقتصاد)، والقوة “الناعمة” وتجسدها (الثقافة والدبلوماسية والإعلام). أما اليوم فقد برز نوع ثالث هو القوة “الإدراكية” (Cognitive Power)- أي القدرة على السيطرة على المعلومة والإدراك معًا.
تُخضع القوة الصلبة الجسد، فيما تُغري القوة الناعمة الوجدان، أما الإدراكية فتغزو العقل نفسه، وبالتالي فإن من يملك الخوارزميات التي تُحلِّل البيانات ويستنتج منها قرارات سياسية واقتصادية بسرعة أكبر، يملك اليد العليا في صنع القرار العالمي.
تُجسد كلٌّ من الولايات المتحدة والصين هذا الصراع الجديد شكلًا ومضمونًا. حيث تمتلك واشنطن التفوق في البرمجيات والرقائق الدقيقة، بينما ترد بكين بتوسيع نفوذها عبر البنى التحتية الرقمية ومشروعات “الحزام والطريق” التي تجمع البيانات الاقتصادية والاجتماعية في عشرات الدول. ولم يعد السباق بينهما حول النفط أو الأسواق، بل حول من يحتكر المعرفة القابلة للتحليل الآلي.
– مِن الردع النووي إلى الردع الخوارزمي:
في القرن العشرين، قامت توازنات القوى على الردع النووي، حيث كان امتلاك القنبلة النووية يشكل ضمانة للبقاء، أما اليوم فإن الردع قد أصبح خوارزميًا بامتياز، يحسمه امتلاك قدرات ذكاء اصطناعي قادرة على كشف نوايا الخصوم وتحييدهم قبل الفعل.
اليوم تستطيع الأقمار الصناعية المدعّمة بخوارزميات الرؤية الحاسوبية، تحليل تحركات القوات بدقة المتر، وبرامج تحليل النصوص ترصد تغير نبرة الخطاب السياسي في البرلمانات والبيانات الدبلوماسية، بينما تُستخدم نماذج التعلّم الآلي للتنبؤ بالاضطرابات الاجتماعية بناءً على بيانات الاقتصاد والطقس والإعلام.
هذه القدرات تجعل من المعلومة سلاحًا وقائيًا، فالدولة التي تعرف أكثر تتحرك أولًا، وتمنع غيرها من المفاجأة. من هنا أصبحت أجهزة الاستخبارات تسابق الوقت لدمج الذكاء الاصطناعي في أنظمتها، ليتحوّل التجسس من جمع المعلومات إلى إدارة الوعي.
– الذكاء الاصطناعي كأداة دبلوماسية ناعمة:
في المقابل، لا يقتصر الذكاء الاصطناعي على الصراع الخفي. فهو أيضًا أداة دبلوماسية ناعمة جديدة، وحين تطلق دولة منصة مفتوحة المصدر أو تشارك خوارزميات تعليمية للعالم، فإنها تمارس نوعًا من القوة المعرفية التي تكسبها الاحترام والتأثير دون استخدام القوة.
الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يسعى إلى بناء ما يطلق عليها “حوكمة أخلاقية” للذكاء الاصطناعي، محاولًا تقديم نفسه كضمير رقمي للعالم، مقابل النموذج الأمريكي التجاري والنموذج الصيني السلطوي. وهكذا نرى كيف تحوّلت الأخلاقيات التقنية إلى مجال تنافس دبلوماسي يوازي سباقات السلاح التقليدية.
حتى الأمم المتحدة باتت تتعامل مع الذكاء الاصطناعي بوصفه ملفًا سياسيًا بامتياز، إذ تبحث في إمكانية وضع اتفاق دولي ينظم استخدامه في الحروب والمراقبة، شبيه بمعاهدات الحد من التسلح والانتشار النووي.
– مَن يحتكر البيانات يحتكر المستقبل:
تُعد البيانات جوهر الذكاء الاصطناعي؛ فهي المادة الخام التي يتغذى عليها العقل الاصطناعي. لذلك، أصبح امتلاك البيانات -كما كان امتلاك النفط- معيارًا للهيمنة. وقد بلغ الأمر حد امتلاك شركات التكنولوجيا الكبرى (غوغل، ميتا، أمازون، وتينسنت) بيانات تفصيلية عن سلوك مليارات البشر، وهي بيانات تتجاوز قدرات أي جهاز استخباراتي تقليدي في التاريخ.
هذه الشركات لم تعد مجرّد كيانات اقتصادية، بل لاعبين سياسيين عالميين يؤثرون في الأمن القومي للدول. القرارات التي تتخذها خوارزمياتهم في تصنيف الأخبار أو توجيه الإعلانات يمكن أن تغيّر نتائج انتخابات أو تشعل احتجاجات. ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى هذه المعادلة، أصبحت الحدود بين السلطة التقنية والسيادة السياسية عائمة، بل وهلامية إن صح التعبير.
– موقع العالم العربي في سباق الإدراك:
بالرغم من امتلاك العالم العربي إمكانات بشرية ومالية ضخمة، فإنه ما زال في طور التلقي لا المشاركة، ورغم أن الاستثمارات الخليجية في الذكاء الاصطناعي تمثل خطوات متقدمة، لكن مخاطرها أكثر من أي فرص قد توفرها، طالما وهذه الدول لا تملك سيادة رقمية حقيقية، ولا تمتلك البيانات والبنية التحتية والخوارزميات محليًا، بل يتم استيرادها من الخارج.
أما بقية الدول العربية، فتواجه تحديًا أكبر، يتمثل في الاعتماد على منصات أجنبية في كل جوانب الحياة الرقمية، ما يجعلها مكشوفة أمام القوى الكبرى، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا. كما أنه من دون وجود إستراتيجية عربية مشتركة لإدارة البيانات وحماية الفضاء السيبراني، سيظل العالم العربي مستهلِكًا للذكاء الاصطناعي لا صانعًا له – وبهذا يفقد جزءًا كبيرًا من استقلاله الإدراكي.
– اليمن نموذج التحدي والإمكان:
في اليمن، حيث الواقع الاقتصادي والأمني الهشّ في ظل العدوان والحصار، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون سلاحًا ذا حدين.
من جهة، يمكن توظيفه في تحسين الخدمات الحكومية، ومكافحة الفساد، وإدارة الموارد، بل وحتى في التنبؤ بالكوارث الطبيعية. لكن من جهة أخرى، يصبح البلد عرضة للاختراق لا سيما في حال استُخدمت أنظمة مراقبة أو اتصالات غير مؤمَّنة، أو جرى استيراد تقنيات من مصادر غير موثوقة.
ولكي يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى فرصة لا خطر، يحتاج اليمن إلى رؤية وطنية للأمن السيبراني، تتكامل فيها المؤسسات، ويُستثمر فيها العنصر البشري المحلي في مجال التقنية والتحليل. إن الاستقلال في عصر الخوارزميات يبدأ من الوعي الرقمي والسيادة على البيانات.
– نحو فلسفة جديدة للقوة:
الذكاء الاصطناعي يعيد تعريف مفاهيم أساسية في الفكر السياسي: من السيادة إلى الأمن، ومن القوة إلى الشرعية. وإذا كانت القوة في الماضي تُمارس عبر السيطرة على الإقليم أو الموارد، فإنها اليوم تُمارس عبر السيطرة على المعلومة والوعي، والدولة القادرة على فهم تدفّق البيانات وتحويله إلى قرار هي الدولة التي تملك زمام المستقبل.
هذه التحولات تفرض أيضًا أخلاقيات جديدة للسياسة. فحين تتخذ الخوارزميات قرارات تؤثر في البشر، يصبح السؤال الأخلاقي سياسيًا بامتياز: من يبرمج هذه الخوارزميات؟ ولمصلحة من تعمل؟
الذكاء الاصطناعي ليس محايدًا؛ إنه يعكس رؤية صانعه للعالم، وإذا لم يُحكم ضبطه قانونيًا وأخلاقيًا؛ فإنه قد يتحوّل إلى أداة هيمنة ثقافية واقتصادية جديدة.
– ختامًا:
يدخل العالم عصر «العقل الاصطناعي» حيث تُدار السياسة بلغة الأرقام، وتُخاض المعارك على شاشات لا في الميدان. القوة الإدراكية أصبحت السلاح الأشد تأثيرًا؛ لأنها تستهدف الإنسان من الداخل (وعيه، قراراته، وخياله السياسي).
والدول التي تفشل في فهم هذا التحول لن تخسر معركة فحسب، بل ستفقد قدرتها على الفهم ذاته. ولذلك، فإن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي ليس ترفًا علميًا، بل ضرورة وجودية لكل دولة تريد أن تبقى فاعلة في خريطة القوى العالمية المقبلة. بمعنى أن السيطرة على الخوارزميات، في نهاية المطاف، هي سيطرة على المستقبل.
*أكاديمي وكاتب سياسي