عطوان: لماذا تأخّر ردّ قيادة “حماس” في غزة على اتّفاق لقاء المُخابرات الرباعي في باريس؟ وما الهدف من التركيز الأمريكي المُفاجئ على دراسة الاعتِراف بالدّولة الفِلسطينيّة؟ وما هو شُعور السيّدين السنوار والنخالة تُجاه القرار بمنعهم من دُخول جنّات عدن في أمريكا..!

5٬800

أبين اليوم – مقالات وتحليلات 

تحليل/ عبد الباري عطوان:

حتّى هذه اللّحظة لم يصل ردّ قيادة حركة “حماس” في غزة على مشروع وقف إطلاق النّار الذي تمخّض عن اجتماع رباعي في باريس شارك فيه رؤوساء المُخابرات في قطر ومِصر وإسرائيل والولايات المتحدة راعية هذا الاجتِماع، وهُناك احتمالٌ كبير يُفيد بأنّ هذا التّأخير جاء مُتعَمّدًا، وأنّ أيّ مُوافقة عليه إذا صدرت، ستكون مشروطة بتحقيق مطالب المُقاومة في إنسحاب إسرائيليٍّ كاملٍ، ووقفٍ دائمٍ للحرب من قِبَل دولة الاحتِلال.

ما يجب أن تُدركه هذه القيادة التي تحظى بدعمٍ شِبه إجماعي من الفِلسطينيين في الضفّة والقِطاع، أن مشروع الاتّفاق هذا جاء لإنقاذ دولة الاحتِلال والنّفوذ الأمريكي المُتآكل في مِنطقة الشّرق الأوسط، وإجهاض احتِمالات توسّع الحرب، وبعد الوصول إلى قناعةٍ راسخةٍ من قبلنا باستِحالة القضاء على حركة “حماس” أو هزيمتها، بالنّظر إلى احتِفاظها بأكثر من 80 بالمئة من سِلاحها وقوّاتها الدفاعيّة وأنفاقها ومصانعها الحربيّة بعد ما يَقرُب من أربعة أشهر من بدء العُدوان الإسرائيلي.

كُل ما يُخطّط له بنيامين نتنياهو هذه الأيّام هو الإفراج عن أكبر عدد من الأسرى والمدنيين منهم خاصّةً، للتفرّغ دُونَ أيّ ضُغوطٍ داخليّة، أو خارجيّة، لإكمال مشروعه لتفريغ قِطاع غزة من كثافته السكّانيّة عبر التّهجير القسْري أو الطّوعي، وبعد ذلك وضعه تحت الحُكم العسكريّ الإسرائيليّ، ونهب احتِياطاته الضّخمة من الغاز والنفط، وإحياء المُستوطنات (غوش قطيف و16 مُستوطنة أخرى) التي جرى تفكيكها بعد تعاظُم الخسائر البشريّة والماديّة في صُفوف المُستوطنين وقوّات الجيش، وإنهاء الاحتِلال المُباشر عام 2005، بسبب ضربات المُقاومة المُوجعة.

الاحتِيال الأمريكي لتسويق هذا المُخطّط الإسرائيلي يَبلُغ هذه الأيّام ذروته بإلقاء طُعم الاعتِراف بقيام دولة فِلسطينيّة مُستقلّة في الضفّة والقِطاع “منزوعة السّلاح” في مرحلةِ ما بعد حرب غزة، حيث سرّبت وزارة الخارجيّة الأمريكيّة معلومات تقول إنّ بلينكن يَدرُس الاعتِراف بهذه الدّولة، وطلب من مُساعديه تقديم نماذج لدُول منزوعة السّلاح لتطبيقها عليها.

هُناك مثلٌ شعبيٌّ يقول “يُمكن معرفة الكذبة من كُبرها”، وهذا مثلٌ ينطبق على هذه التّسريبات الأمريكيّة والبريطانيّة في هذا الشّأن، فالدّولتان الحليفتان اللّتان خاضتا سَويًّا جميع الحُروب التدميريّة في الشّرق الأوسط، تُخطّطان لنصبِ فخٍّ جديدٍ للمُقاومة والشعب الفِلسطيني، وبيعهما “الوهم مجددًا” لامتِصاص الانتِصار الذي حقّقته “غزوة” السّابع من تشرين أوّل “أكتوبر” الماضي، وتقليص حجم الخسائر الإسرائيليّة البشريّة والماديّة، ولهذا الحذر حتميّ.

هُناك عدّة حقائق تُؤكّد ما قُلناه آنفًا:

الأولى: صادق مجلس النوّاب الأمريكي بالأغلبيّة السّاحقة أمس على مشروعِ قرارٍ يحظر دُخول الولايات المتحدة على جميع أعضاء منظّمة التّحرير وحركتيّ “حماس” و”الجهاد الإسلامي” حيث صوّت 422 عُضوًا لصالحه، ولم يُعارضه إلّا صوتان فقط، فكيف ستُؤيّد أمريكا قيام دولة فِلسطينيّة وهي تُعارض دُخول جميع أعضاء منظّمة التحرير التي وقّعت على اتّفاق أوسلو، واعترفت بإسرائيل، وتنازلت عن 80 بالمئة من الأراضي الفِلسطينيّة التاريخيّة، ووظّفت 60 ألفًا لحِماية المُستوطنين وقمْع شعبها؟

الثانية: الولايات المتحدة التي رعَتْ اتّفاق أوسلو الذي جرى توقيعه في حديقة بيتها الأبيض قبل 30 عامًا، استخدمت حقّ النّقض “الفيتو” في مجلس الأمن على مدى 20 عامًا لإجهاض قرار من الجمعيّة العامّة لمنْح فِلسطين العُضويّة الكاملة كدولة في منظّمة الأمم المتحدة، ويبدو أنها إذا اعترفت بهذه الدّولة ستَحصُرها في أرشيف المنظّمة الدوليّة ولن تُقيمها على الأرض.

الثالثة: تُؤكّد الإدارة الأمريكيّة دائمًا بأنّ قيام أيّ دولة فِلسطينيّة يجب أن يأتي بالتّوافق بين الجانبين الإسرائيلي والفِلسطيني، وأن تكون هذه الدّولة منزوعة السّلاح، والسُّؤال هُنا: كيف يُمكن أن تتعايش دولة فِلسطينيّة منزوعة السّلاح جنبًا إلى جنبٍ مع عدوٍّ مارَس ويُمارس حرب الإبادة والتّطهير العِرقي في قطاع غزة، ولا يَملُك أيّ سِلاحٍ للدّفاع عن نفسه في حالِ تِكرار العُدوان؟

الرابعة: الحاكم الحقيقي للولايات المتحدة هذه الأيّام بنيامين نِتنياهو وليس جو بايدن، وهذا يتّضح من رفض إسرائيل لكُل المطالب الأمريكيّة في وقف إطلاق النّار وأعمال القتل والتهجير الدّاخلي لأبناء القِطاع (27 ألف شهيد 70 ألف جريح، وتدمير 86 بالمِئة من بُيوت سُكّانه)، أمريكا تعهّدت بضمان عدّة اتّفاقات سابقة لوقف إطلاق النّار وإعادة إعمار غزة، أبرزها اتّفاق شرم الشيخ بعد حرب عام 2013، ولم تحترم أيّ من هذه الضّمانات وتفرضها على “إسرائيل”، وما زالت آلاف البُيوت والأبراج مُدمّرةً وعلى حالها مُنذ ذلك التّاريخ، رُغم رصد 5 مِليارات دولار لإعادة الإعمار.

نُناشد قيادة “حماس” في قطاع غزة التي ألحقت أكبر هزيمة في تاريخ دولة الاحتِلال مُنذ قيامها قبل 75 عامًا، أن تتمسّك بشُروطها كاملةً، وأن لا تقبل بهذا الاتّفاق “المَصيَدة” المطروح عليها حاليًّا وتُسوّقه، وترعاه المُخابرات الأمريكيّة والعربيّة المُتواطئة معها، لأنّ أبرز أهداف هذا الاتّفاق إنقاذ إسرائيل من الهزيمة، أو تقليص آثارها، ومُحاولة فرض شُروطها على المُقاومة الفِلسطينيّة بالإرهاب والإبادة الجماعيّة، وامتِصاص الغضبة الشعبيّة المُتفاقمة في الوطن العربي ضدّ أمريكا ودولة الاحتِلال، وتسريع انفِجار الثّورات ضدّ الحُكّام المُتواطئين.

أمريكا التي ترعى هذا الاتّفاق المِصيَدة، ومعها مُعظم حُلفائها الأوروبيين لم تُطالب مُطلقًا بوقف حرب الإبادة في القطاع، بل أيّدتها تحت عُنوان “الدّفاع عن النّفس”، ولم تعترض مُطلقًا على وقف المُساعدات الإنسانيّة وحرب التّجويع لمِليونين من أبناء القطاع لا يَجِدون حاليُّا لُقمة الخُبز الحاف والحليب لأطفالهم للبقاء أحياء.

النّصر صبرُ ساعة، وتحقيقه يقترب بسُرعةٍ، وما فشل 550 ألف جُندي إسرائيلي في السّيطرة الكاملة على القطاع، والقضاء على المُقاومة، واغتِيال، أو أسْر قيادتها، إلّا تأكيدًا على ما نقوله آنفًا، فدولة الاحتِلال أُصيبت بضربةٍ قاصمةٍ لظهرها، وزعزعت أعمدة وجودها، وتُريد، وبمُساعدة أمريكا، اجتِثاث المُقاومة من جُذورها، وتدمير حاضِنتها الشعبيّة.

لا نعتقد أن السيّد يحيى السنوار وشريكه الأبرز في المُقاومة زياد النخالة وكُل جِنرالاتهما في ميادين القِتال في غزة والضفّة، لن يناموا اللّيل حُزنًا على منعهم من دُخول الولايات المتحدة، لأنّهم يتطلّعون إلى دُخول جنّات الخُلد كشُهداء، وينظرون بسُخريةٍ إلى هذا القانون الأمريكي بحظْرهم.

ختامًا نُحيّي الشّعب اليمني وقوّاته المُسلّحة التي لقّنت الولايات المتحدة، بل والغرب الاستِعماري كلّه، درسًا مُهينًا بحظْر المِلاحة في البحر الأحمر على السّفن الإسرائيليّة والأُخرى المُحمّلة بالبضائع لموانئ دولة الاحتِلال، والرّد بقُوّةٍ على التّهديدات بقصف المزيد من السّفن الحربيّة والتجاريّة الأمريكيّة، وتحميل الغرب خسائر ماديّة بعشَرات المِليارات من الدّولارات وضرب اقتِصادها في مقتل.

الأشقّاء في اليمن لا يعرفون شيئًا اسمُه الخوف، ويكيلون الصّاع صاعَين وربّما خمسة، لكُل من يعتدي عليهم، حتّى لو كانت الدّولة الأمريكيّة العُظمى حاليًّا والبريطانيّة سابقًا، ويتمسّكون بالوقوف “عمليًّا” في خندق أشقّائهم في القِطاع، وعدم التردّد في نيْل الشّهادة من أجلِ رفع الحِصار التّجويعي الذي يستهدفهم، ويُشرّفنا أن نَنْقُل لهُم شُكرَ وتقدير الآلاف من أهلنا في القطاع والضفّة الغربيّة.

 

المصدر: رأي اليوم