عطوان: اجتماعان سِرّيّان رئيسيّان كانَ التحدّي اليمني محورهما يُشَكّلان بداية اعتراف أمريكي بالهزيمة في الشّرق الأوسط.. ما هُما؟ ولماذا ستُؤرّخ غزة لنهاية نتنياهو وستكون مقبرة المشروع الصّهيوني برمّته؟ وما هي المُؤشّرات الأوّليّة التي تُؤكّد ذلك؟ ولماذا نتمنّى ونُصلّي لانتِشار “العدوى الوطنيّة” اليمنيّة بالمِنطقة..!

6٬899

أبين اليوم – مقالات وتحليلات 

تحليل/ عبدالباري عطوان:

اجتماعان سِرّيّان انْعقَدا في الأيّام القليلة الماضية يُمكن القول إنّهما يُؤشّران إلى حُدوثِ تغييرٍ استراتيجيٍّ قادم يتعلّق بأهم الأحداث الجارية حاليًّا في المِنطقة وأبرزها الحرب المُتصاعدة في قطاع غزة، والثانية الأخرى التي تجري في البَحرين العربي والأحمر، ومِن المُفارقة السّارّة أنّ اليمن وموقف قيادته وقوّاته المُسلّحة الدّاعم لغزة كان المحور الرئيسي في الاجتماعين.

الاجتماع السرّي الأوّل انعقد في مسقط عاصمة سلطنة عُمان، بين وفد إيراني ومندوبين أمريكيين، قالت مصادر واشنطن إنه بحث تخفيف العُقوبات على إيران، بينما قالت مصادر أُخرى أكثر دقّة، إنّ مُعظم المُباحثات تركّزت حول طلبٍ أمريكيٍّ بضرورة وقف الهجمات الصاروخيّة وبالمُسيّرات التي تشنّها القوّات البحريّة اليمنيّة وتستهدف سُفُنًا أمريكيّة وإسرائيليّة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب أحدثت نوعًا من الشّلل في التّجارة العالميّة البحريّة، ووضعت المصالح الأمريكيّة في المِنطقة أمام تَحَدٍّ خطير من الصّعب مُواجهته.

الاجتماع السرّي الثاني، وغير المسبوق، جرى في العاصمة اللبنانيّة بيروت على الأرجح، بين مسؤولين عسكريين من حركة “أنصار الله” اليمنيّة الحوثيّة، ونُظرائهم في ثلاثة فصائل فِلسطينيّة رئيسيّة هي حماس، والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، بهدف الاتّفاق على آليّات التّنسيق بين هذه الفصائل مُجتمعة لتصعيد أعمال المُقاومة ضدّ إسرائيل والولايات المتحدة في المرحلة المُقبلة، وهذه الفصائل مُجتمعة قادرة على تغيير المُعادلات في المِنطقة جنبًا إلى جنب مع مثيلاتها في جنوب لبنان والعِراق، حيثُ التّنسيق قائم.

هذه الاجتماعات السّريّة التي تنعقد على أرضيّة مُواجهة العُدوان الإسرائيلي على قطاع غزة تعكس توجّهًا قويًّا بتوسيع دائرة الحرب فِعليًّا في المِنطقة، واستهداف الولايات المتحدة ونُفوذها ومصالحها، ممّا يَصُبّ في مصلحة خُصومها في موسكو وبكين، وبِما يُعزّز من الدّور الإقليميّ لإيران الحليف الأكبر للدّولتين، والدّاعم “الوحيد” لفصائل المُقاومة عسكريًّا وسياسيًّا وماليًّا.

إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بدأت تُدرك أنّ كُل هذه الأزمات الداخليّة والخارجيّة، المُتفاقمة التي تُواجهها حاليًّا في مِنطقة الشّرق الأوسط تأتي بسبب “إسرائيل” وحرب الإبادة التي تشنّها في قطاع غزة، ولهذا بدأت تُجري مُراجعات مُتسارعة لسِياستها في المِنطقة لإنقاذ سُمعتها المُتهاوية، وتحالفاتها، بهدف تقليص الخسائر بأسرعِ وقتٍ مُمكن.

التّصريحات الخطيرة، وغير المسبوقة، التي أدلى بها السّناتور “اليهودي” تشاك شومر، رئيس الأغلبيّة الديمقراطيّة في مجلس الشّيوخ الأمريكي، وطالب الإسرائيليين فيها بإسقاط بنيامين نتنياهو وحُكومته المُتطرّفة بأسرعِ وقتٍ مُمكن، واتّهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بتدمير مكانة إسرائيل في العالم، وارتكاب مجازر مُرعبة، وهذه التّصريحات حظيت بتأييدٍ مُبطّن من الرئيس بايدن، والتّهديدات التي تسرّبت بتخفيض الدّعم الأمريكي العسكري للجيش الإسرائيلي، كلّها جاءت كنَوعٍ من الضّغط على الحُكومة الإسرائيليّة للقُبول باتّفاق التّهدئة المطروح على الطّاولة حاليًّا مع حركة المُقاومة الإسلاميّة “حماس” في مُباحثات الدوحة، وعدم المُضيّ قُدُمًا في الهُجوم على مدينة رفح جنوب القِطاع، الذي قد تترتّب عليه نتائج كارثيّة على الصّعيدين الإنساني الفِلسطيني والعسكري الإسرائيلي بسبب استِعدادات المُقاومة للتصدّي له.

الولايات المتحدة الأمريكيّة بدأت تُدرك جيّدًا أنّها على أعتابِ هزيمةٍ كُبرى في مِنطقة الشّرق الأوسط، سياسيّة، وعسكريّة، وأخلاقيّة، دفعتها إلى هذه المُراجعات مُكرهة، والفضل الأكبر يعود بالدّرجة الأولى إلى الموقف الجريء والشّجاع الذي أقدمت عليه القيادة اليمنيّة في صعدة بإشعالِ فتيلِ حربٍ مُوازية في البحر الأحمر ضدّ السّفن الإسرائيليّة والأمريكيّة تضامنًا عمليًّا، فاعِلًا، مع المُحاصَرين المُجوّعين المُقاومين في قطاع غزة، وهو موقفٌ لم تُقدم عليه أي دولة عربيّة أُخرى.

المواقف الجريئة الشّجاعة بتوسيع دائرة حرب السّفن وامتِدادها إلى المُحيط الهندي، ورأس الرّجاء الصّالح الإفريقي الجنوبي، التي أعلن عنها السيّد عبد الملك الحوثي أصابت الولايات المتحدة الأمريكيّة وأمنَها وسُمعتها، والاقتِصاد الغربيّ بشَكلٍ عام في مقتل، فالإدارة الأمريكيّة لم تتعوّد، أو تتوقّع، مِثل هذه المواقف من الحُكومات العربيّة خاصَّةً تلك المُطبّعة الخاضِعَة لإملاءاتها، ومِصر والأردن تحديدًا، فأكثر من 15 بالمِئة من التّجارة العالميّة، و85 بالمئة من التّجارة الإسرائيليّة تَمُرّ عبر البحر الأحمر، وامتِداد الهجمات الصاروخيّة اليمنيّة إلى السّفن الإسرائيليّة في المُحيط الهنديّ ورأسِ الرّجاء الصّالح يعني خنْق أمريكا، ودولة الاحتِلال حليفتها، اقتصاديًّا وأمنيًّا.

أمريكا، وباختصارٍ شديد، بدأت تستسلم للدّهاء الإيرانيّ وأذرعه، وتُقدّم التّنازل تِلو الآخَر، ففي مُفاوضات مسقط السّريّة أفرجت عن 10 مِليارات دولار من أرصدتها (إيران) في العِراق، ومن المُؤكّد أن أيّ إنقاذٍ لها (أمريكا) من هزيمتها في البحر الأحمر سيكون باهظ الثّمن، ولن يقتصر على وقف الحرب، وإعادة إعمار قطاع غزة فقط، وإنّما قد يمتدّ لإيجادِ حُلولٍ دائمةٍ للصّراع العربيّ الإسرائيليّ.

غزة ستكون مقبرة المشروع الصّهيوني بعد 75 عامًا من قيامه، وستضع نُقطة النّهاية لعصر نتنياهو، وستُؤرّخ للهزيمة الأكبر للجيش الإسرائيلي، والاستراتيجيّة الأمريكيّة الغربيّة الدّاعمة لها.

عندما يتبنّى العرب والمُسلمون سياسة القُوّة كحَلٍّ وحيد لمُواجهة المشروع الأمريكي، ويعطون الأولويّة لهزيمة إحدى قواعده الأبرز في فِلسطين المُحتلّة، سيرًا وتبنّيًا للنّموذج اليمني الحالي المُشرّف، فإنّ النّهضة الموعودة والمأمولة ستتحقّق.

عامِلان رئيسيّان سيُغيّران المِنطقة، ويُكمّلان بعضهما البعض، الأوّل انتِصار المُقاومة بعد صُمودها أكثر من خمسة أشهر في قطاع غزة، والثاني “الفزعة” اليمنيّة العسكريّة والأخلاقيّة والعقائديّة لهذا الانتِصار، وتوظيف كُل دِماء أبناء اليمن في خدمته.

نتمنّى أن تمتدّ هذه العدوى الوطنيّة الشّجاعة اليمنيّة إلى دُولِ “الجِوار العربيّ”، ومن بعدها دُوَل التّطبيع المُضَلَّلة، والأُخرى المُتَفرِّجة، لتخرج الصّحوة المُنتَظرة من وسطِ رُكامِ الدّمار والفِداء والتّجويع في غزة، وليس ذلك على اللهِ بكثير.

 

المصدر: رأي اليوم