“تقرير“| من فخ الاستسلام إلى ورقة ضغط.. كيف حوّلت حماس الخدعة الأمريكية إلى لحمة فلسطينية..!

7٬885

أبين اليوم – تقارير 

لم تكن مبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي حملت بصمات رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، سوى فصل جديد من فصول الخداع السياسي الذي طالما استُخدمه الغرب لتسويق الحلول المعلّبة للقضية الفلسطينية.

فالمبادرة التي أُعلن عنها وسط تصاعد غير مسبوق في التفاعل العالمي مع مظلومية الفلسطينيين، لم تستهدف إنهاء العدوان أو وقف الكارثة الإنسانية في غزة، بل جاءت كأداة سياسية لإعادة توجيه الأنظار، وتحميل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مسؤولية المأساة التي يعيشها القطاع المحاصر تحت وابل القصف والحصار والتجويع.

إلا أن ما لم يحسب له مهندسو المبادرة حساباً، هو قدرة حماس على قراءة الموقف بعمق والرد بدهاء سياسي غير مسبوق، حوّل مسار المبادرة من فخ إلى فرصة، ومن ورقة ابتزاز إلى ورقة ضغط مضاد على واشنطن والاحتلال الإسرائيلي.

أهداف مكشوفة:

منذ توقيع “صفقة القرن” في عهد ترامب، بدا واضحاً أن الإدارة الأمريكية تتعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها ملفاً أمنياً إسرائيلياً داخلياً، لا قضية تحرر وطني لشعب تحت الاحتلال.
وقد سعى ترامب، بمشاركة حلفائه في الاحتلال الإسرائيلي وبعض الأنظمة العربية، إلى فرض وقائع جديدة تنسف الأسس القانونية والتاريخية للقضية، بدءاً من شرعنة المستوطنات، وصولاً إلى تصفية حق العودة والقدس.

وعندما اندلعت حرب الإبادة في غزة، وما صاحبها من تعاطف عالمي غير مسبوق مع الفلسطينيين، برزت الحاجة الأمريكية إلى مبادرة “إنقاذية”، هنا دخل توني بلير على الخط ليصوغ مقترحاً يهدف بالأساس إلى امتصاص الغضب الدولي عبر إظهار واشنطن وكأنها تبحث عن مخرج سياسي، ونقل المسؤولية إلى حماس بإظهارها رافضة للحلول المطروحة، وبالتالي تحميلها وزر استمرار العدوان والمعاناة الإنسانية، وكذا تأمين مكاسب استراتيجية للاحتلال الإسرائيلي من خلال فرض شروط استسلاميه تحت غطاء “عملية سلام”.

قبول ورفض:

كان السيناريو الأمريكي الإسرائيلي واضحًا: إما أن تقبل حماس بالمبادرة بما تحمله من شروط مذلة تعني فعلياً إنهاء مشروع المقاومة وتجريد الحركة من قوتها السياسية والعسكرية، أو ترفضها بشكل قاطع لتُتهم أمام العالم بأنها تعرقل السلام وتُصر على الحرب.

لكن الحركة رفضت أن تُدفع إلى أحد الخيارين، ونجحت في ابتكار خيار ثالث أربك الخصوم: القبول المبدئي المشروط، مع صياغة شروط بديلة تجعل المبادرة في جوهرها شيئاً مختلفاً تماماً عما طُرح.

بدهاء لافت، أعلنت حماس أنها ترحب بالمبادرة، لكنها ربطت هذا القبول بجملة من الشروط التي قلبت المعادلة رأساً على عقب، من خلال وقف العدوان فوراً كشرط أساسي قبل أي خطوة سياسية أو إنسانية، وتنفيذ صفقة تبادل أسرى، وهو مطلب إنساني وسياسي لطالما تجاهلته إسرائيل، إلى جانب تسليم إدارة قطاع غزة إلى حكومة تكنوقراط فلسطينية مستقلة، وهو مقترح سبق أن وافقت عليه الحركة مع السلطة الفلسطينية في القاهرة قبل أن تُفشله الضغوط الأمريكية و”الإسرائيلية”، إلى جانب اشتراط أن يتم أي تسليم القطاع في إطار توافق وطني فلسطيني، خصوصاً مع حركة فتح، وبما يتفق مع القوانين الدولية.

بهذا الموقف، قدّمت حماس نفسها كقوة سياسية منفتحة على الحلول، لكنها في الواقع أعادت صياغة المبادرة الأمريكية بحيث تحولت من فخ استسلام إلى فرصة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني وفق أسس وطنية.

ضرب الخصوم بسلاحهم:

الدهاء الأكبر في رد حماس تمثل في أنها لم تقع في فخ الرفض المباشر، بل حولت لغة المبادرة نفسها إلى أداة لمواجهة خصومها؛ فهي لم تقل “لا”، لكنها قالت: نعم ولكن بشروط، وهو ما وضع الإدارة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي في مأزق؛ فإذا رفضوا الشروط، بدوا أمام العالم كأنهم الطرف الذي يعرقل وقف الإبادة، وإذا قبلوا بها، فهذا يعني عملياً الاعتراف بحماس كطرف سياسي شرعي لا يمكن تجاوزه.

في الحالتين، خرجت الحركة من دائرة الاتهام، وألقت بالكرة في ملعب ترامب و”نتنياهو”، اللذين وجدا نفسيهما أمام مشهد سياسي أكثر تعقيداً مما خططا له.

ومن اللافت أن حماس لم تكتف بطرح بدائل إنسانية وسياسية، بل وضعت المصالحة الفلسطينية كشرط محوري في أي تسوية مستقبلية. فهي ربطت تسليم إدارة غزة باتفاق مع حركة فتح، وهو ما يعني أن الحركة استخدمت المبادرة الأمريكية لتجديد الدعوة للوحدة الوطنية، وإحراج السلطة الفلسطينية التي تراجعت عن اتفاق القاهرة السابق تحت ضغط الاحتلال وواشنطن.

وبهذا المعنى، فإن دهاء حماس لم يقتصر على مواجهة واشنطن وتل أبيب، بل امتد ليشمل إعادة تموضع في الساحة الفلسطينية نفسها، حيث بدت كحركة حريصة على الوحدة والتوافق الوطني أكثر من خصومها.

البعد الدولي: قلب المعادلة الخطابية:

دولياً.. جاءت استجابة حماس لتسحب البساط من تحت الخطاب الأمريكي الذي طالما صوّر الحركة على أنها “كيان إرهابي رافض للسلام”. فالحركة بقبولها المشروط أظهرت نفسها كطرف سياسي مسؤول يطرح حلولاً واقعية وعادلة، بينما انكشف أن من يعرقل وقف الحرب ويمارس الإبادة هو الاحتلال وحلفاؤه.

هذا التحول في الصورة الدولية يمثل ضربة استراتيجية للولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً في ظل تنامي الضغوط الشعبية والإعلامية والحقوقية في الغرب ضد استمرار العدوان على غزة.

لم يكن دهاء حماس في التعامل مع مبادرة ترامب معزولاً عن السياق الإقليمي، بل جاء في لحظة حساسة توازن فيها الحركة بين أطراف متعددة، فالقاهرة التي رعت اتفاقات التهدئة السابقة، وجدت في موقف حماس فرصة لإعادة إحياء دورها الإقليمي؛ فاشتراط الحركة أن يتم تسليم غزة في إطار اتفاق فلسطيني داخلي يتماشى مع الرؤية المصرية التي ترفض تكريس الانقسام. لكن في الوقت نفسه، أربكها إصرار حماس على أن الضغوط الأمريكية هي من أفشلت الاتفاقات السابقة.

أما الدوحة التي لعبت دوراً محورياً في دعم غزة إنسانياً وسياسياً، فقد وجدت في موقف حماس ورقة تعزز موقعها كوسيط مؤثر؛ فالقبول المشروط يفتح المجال أمام قطر لتسويق نفسها كجسر للتواصل مع الغرب من جهة، ومع حماس من جهة أخرى، فيما رأت أنقرة في دهاء حماس ما ينسجم مع استراتيجيتها بما يوفر لها مساحة أوسع للمناورة بين دعم غزة والبحث عن مكاسب إقليمية لصالحها.

وفي الجانب الآخر قرأت طهران، الحليف العسكري الأبرز لحماس، الموقف باعتباره انتصاراً تكتيكياً يثبت أن الحركة ليست مجرد قوة مقاومة مسلحة، بل فاعل سياسي بارع قادر على إحراج واشنطن. وهذا يعزز رواية إيران الإقليمية عن فشل المشروع الأميركي “الإسرائيلي في المنطقة”.

قراءة في أبعاد الدهاء السياسي:

يمكن تلخيص دهاء حماس في أربعة مستويات:

إستراتيجي: رفض الاستسلام دون إعلان الرفض، وإجبار الخصوم على مواجهة تناقضاتهم.

وطني: إعادة طرح مشروع المصالحة الداخلية وتأكيد أن غزة جزء لا يتجزأ من الكيان السياسي الفلسطيني.

دولي: تحسين صورة الحركة في العالم عبر الظهور كقوة براغماتية منفتحة على الحلول، مقابل كشف زيف المبادرات الأميركية.

إقليمي: فتح مساحات مناورة جديدة أمام القوى الإقليمية، وإظهار أن الحركة قادرة على إدارة توازنات معقدة بين القاهرة والدوحة وأنقرة وطهران.

لم تكن مبادرة ترامب ـ بلير سوى محاولة جديدة لإعادة إنتاج الوصاية الأمريكية على القضية الفلسطينية تحت لافتة “السلام”.

لكن الرد الحمساوي أجهض الخدعة، وأعاد الكرة إلى ملعب الخصوم، فالحركة أثبتت أنها قادرة على تحويل الفخاخ السياسية إلى فرص، وأنها تمتلك من الذكاء السياسي ما يمكّنها من مواجهة أقوى اللاعبين الدوليين بدهاء مذهل.

لقد رفضت حماس المبادرة الأمريكية عملياً من دون أن تقول ذلك صراحة، وأدرجت شروطها الخاصة في صلب المبادرة، لتضع العالم أمام حقيقة واضحة: أن من يريد السلام عليه أن يبدأ بوقف العدوان، والاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية، لا بفرض شروط القتلة والمستعمرين.

وبينما أراد ترامب وبلير أن يظهروا كوسطاء للسلام، انتهى بهم الأمر كمن كشف عجزه أمام حركة مقاومة محاصرة لكنها بارعة في إدارة السياسة.

في النهاية، خرجت حماس بمكسب سياسي مهم: تثبيت حضورها كفاعل رئيسي لا يمكن تجاوزه، وإحراج خصومها أمام العالم، وتأكيد أن الطريق إلى أي حل لا يمر عبر الإدارة الأمريكية وحكومة الاحتلال، بل عبر الإرادة الفلسطينية أولاً وأخيراً.

 

المصدر: وكالة الصحافة اليمنية

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com