“تقرير“| موقع “دارك بوكس” الفرنسي: الإمارات تعيد رسم خريطة النفوذ في جنوب اليمن وتضع السعودية أمام مأزق استراتيجي..!

7٬873

أبين اليوم – خاص 
يمثل الجنوب اليمني اليوم إحدى أبرز ساحات الصراع الإقليمي المعقدة، حيث تتشابك المصالح الدولية والإقليمية مع الديناميات المحلية في مشهد يفرض على أي تحليل دقيق النظر إلى مستويات متعددة من النفوذ والسيطرة. فاليمن، الذي كان يومًا ساحة مواجهة مباشرة بين الدولة المركزية والقوى المتمردة، تحول تدريجيًا إلى مختبر استراتيجي لإعادة توزيع القوى بين الحلفاء التقليديين، حيث تتصارع الرؤى داخل التحالف السعودي الإماراتي نفسه على شكل الدولة ومفهوم السيادة الوطنية.

تأتي التحركات الإماراتية على مدى السنوات الماضية لتكشف عن استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى ترسيخ النفوذ الدائم عبر وكلاء محليين، بدلاً من الانخراط في المواجهة المباشرة مع الدولة أو القوى الأخرى، ما أعاد رسم الخريطة السياسية والأمنية في الجنوب بشكل يفوق مجرد السيطرة العسكرية المؤقتة.

في المقابل، تبدو الرياض، على الرغم من تمسكها بمبدأ وحدة الدولة المركزية، محدودة القدرة على فرض إرادتها على الأرض، محاصرة بين التزاماتها السياسية والدبلوماسية وبين واقع النفوذ الإماراتي المتنامي.

ويكشف هذا التحول عن تناقض جوهري داخل التحالف نفسه: مشروع سعودي يسعى للحفاظ على وحدة الدولة اليمنية، مقابل مشروع إماراتي يقوم على الهيمنة غير المباشرة وتفتيت الجنوب تدريجيًا، بما يحقق مصالح استراتيجية بعيدة المدى، سواء على مستوى الموانئ والطاقة والجغرافيا الحيوية، أو على مستوى بناء تحالفات محلية موالية تضمن للإمارات نفوذًا دائمًا على الأرض.

تضع هذه الديناميات اليمن أمام تحديات خطيرة، إذ لا يقتصر الصراع على المواجهة مع الحوثيين، بل يتحوّل إلى صراع داخلي بين وكلاء الإقليم، يهدد بتفكيك ما تبقى من مؤسسات الدولة المركزية، ويعزز من انقسام البلاد بشكل قد يصبح نهائيًا إذا استمرت السياسات الحالية دون معالجة استراتيجية.

إعادة رسم خريطة النفوذ في الجنوب:

كشف تقرير مطوّل نشره موقع “دارك بوكس” الفرنسي عن تحركات الإمارات في جنوب اليمن على مدى السنوات الماضية، مسلطًا الضوء على جهود أبوظبي لإعادة تشكيل موازين النفوذ في المنطقة، بما أدى عمليًا إلى تراجع الدور السعودي وفقدانها القدرة على التأثير الفعلي على الأرض في المحافظات الجنوبية.

وأشار التقرير إلى أن السعودية تواجه ضغوطًا استراتيجية متزايدة، نتيجة تدخل إماراتي طويل الأمد اتسم بالتخطيط المتدرج وبناء النفوذ عبر وكلاء محليين، الأمر الذي قوض الرؤية السعودية القائمة على الحفاظ على دولة يمنية موحدة ذات سلطة مركزية.

مشروعان متناقضان داخل تحالف واحد:

يوضح التقرير أن التباين بين الرياض وأبوظبي لم يكن طارئًا، بل تراكم على مدى سنوات. فبينما دخلت السعودية الحرب بهدف إعادة سلطة الدولة ومنع قيام كيان معادٍ على حدودها الجنوبية، انتهجت الإمارات مقاربة تقوم على التفتيت، والسيطرة غير المباشرة، وتأمين الجغرافيا الاستراتيجية، خصوصًا في الجنوب.

ويشير التقرير إلى أن هذا التناقض في الأهداف أعاد رسم خريطة النفوذ بشكل واضح، وجعل الجنوب منطقة نفوذ إماراتية طويلة الأمد.

المجلس الانتقالي أداة النفوذ الإماراتي:

وضع التقرير صعود المجلس الانتقالي الجنوبي في صلب التحول، موضحًا أن نفوذه لم يكن نتاج ديناميات محلية فحسب، بل نتيجة دعم إماراتي منظم شمل التمويل، والتدريب، والدعم السياسي، وبناء هياكل إدارية وأمنية تلتزم بالولاء لأبوظبي. في المقابل، عانت التشكيلات المدعومة من السعودية من ضعف التماسك، ما جعل الرياض تتحمل العبء السياسي للحرب دون امتلاك أدوات نفوذ فعلي.

الجنوب كمنطقة نفوذ دائمة:

تكشف الوثائق المسربة، المشار إليها بـ”الصندوق الأسود”، أن الإمارات تعاملت مع جنوب اليمن كمنطقة نفوذ طويلة الأمد، وأعطت الأولوية للسيطرة على الموانئ والسواحل والجزر ومنشآت الطاقة، على حساب جهود المصالحة الوطنية. وبذلك، ضمنت أبوظبي أن أي تسوية سياسية مستقبلية لن تتجاهل مصالحها الاستراتيجية، بينما ظلت السعودية متمسكة بإطار دولة مركزية لم يعد له وجود فعلي إلا على المستوى الشكلي.

مأزق سياسي للسعودية:

يشير التقرير إلى أن الرياض عالقة في “فخ سياسي معقد”، فبالرغم من استمرار دعمها لمجلس القيادة الرئاسي باعتباره ممثل الوحدة اليمنية، إلا أن تآكل سلطته في الجنوب نتيجة تمدد قوى إماراتية يجعل أي مواجهة مباشرة مع المجلس الانتقالي محفوفة بمخاطر الصدام مع أبوظبي، وهو ما تحاول الرياض تجنبه. لذلك، اختارت سياسة إعادة التمركز وضبط النفس، ما فسّرته الإمارات على أنه قبول ضمني بالوضع الجديد.

تغيير طبيعة الصراع في الجنوب:

أدى هذا الخلل إلى تحول طبيعة المواجهة، إذ بات التركيز الأكبر على النزاع الجنوبي بين فصائل مناهضة للحوثيين، بدل التركيز على الجبهة الشمالية. وكرّست الفصائل الموالية للإمارات جزءًا كبيرًا من طاقتها لتحجيم نفوذ القوى المدعومة من السعودية، وتعزيز سيطرتها على المؤسسات والأراضي.

تداعيات إقليمية أوسع ونحو تفتيت دائم:

يمتد التباين بين الرياض وأبوظبي إلى ملفات إقليمية أخرى كالسودان والقرن الأفريقي، لكن اليمن يظل الساحة الأكثر وضوحًا للخلاف، حيث تتصادم رؤية السعودية لدولة موحدة مع نموذج إماراتي قائم على اللامركزية والهيمنة عبر وكلاء محليين.

ويخلص التقرير إلى أن هذا النهج دفع السعودية إلى معادلة صعبة: شمال تحت سلطتها الشكلية وجنوب خارج عن سيطرتها، مع اتجاه محتمل لتفتيت رسمي، ما يهدد مشروع الوحدة اليمنية ويكرّس النفوذ الإماراتي طويل الأمد في الجنوب.

وعليه يمكن القول:

يعكس تقرير “دارك بوكس” عمق الخلاف الاستراتيجي بين الحليفين السعودي والإماراتي داخل التحالف، ويبرز كيف تمكنت أبوظبي من تحويل الجنوب إلى ورقة نفوذ طويلة الأمد، بينما تحملت الرياض العبء السياسي للحفاظ على وحدة الدولة التي أصبحت رمزية أكثر من كونها واقعية.

ويُظهر التقرير أن الصراع في اليمن لم يعد مجرد حرب ضد الحوثيين، بل أصبح ساحة صراع داخلي بين وكلاء الإقليم، ما يعزز فرص استمرار الانقسام، ويضعف أي مسار حقيقي للمصالحة الوطنية، ويحول الجنوب إلى نموذج للإمارات في الهيمنة غير المباشرة عبر أدوات محلية.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com