“تقرير خاص“| هيئة الإفتاء الجنوبية: انتقال الانتقالي من الصراع السياسي إلى هندسة الشرعية الدينية..!

7٬992

أبين اليوم – خاص 

في جنوب اليمن، لا يتوقف الصراع عند حدود القوة العسكرية أو الانقسام السياسي، بل تجاوز ذلك إلى ساحة أكثر عمقًا وأشد تأثيرًا على النسيج المجتمعي: الفضاء الديني والعقائدي.

فالمجلس الانتقالي، لم يعد يكتفي بالتحشيد العسكري أو المناورات السياسية، بل شرع في هندسة شرعية جديدة تُلبس أهدافه الانفصالية ثوب الدين، محاولةً لإضفاء غطاء يشرعن خطواته أمام الداخل والخارج على حد سواء.

هذا التحول ليس صدفة؛ إنه مؤشر على استراتيجيات متقدمة تسعى لخلق «شرعية موازية» تُحول المعارض السياسي إلى خصم ديني، وتُضفي على المعارك الإقليمية والطائفية بعدًا وجوديًا يصعب تجاوزه بالوسائل التقليدية.

هنا.. السياسة تلتقي بالدين، والفتوى تتحول إلى أداة تعبئة، والصراع على الأرض يصبح صراعًا على الوعي والضمير.

في هذه البيئة المشحونة، كل خطوة للانتقالي، سواء كانت تشكيل هيئة دينية أو إطلاق عملية عسكرية، ليست مجرد حدث ميداني عابر، بل رسالة مزدوجة: قوة على الأرض وشرعية في العقل الجمعي، تهدف إلى تثبيت واقع جديد يُعيد رسم خرائط السلطة والنفوذ، ويعيد إنتاج قواعد الصراع على نحو أعمق وأشد ديمومة.

ويمثل قرار رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، عيدروس الزبيدي، تشكيل «اللجنة التحضيرية لهيئة الإفتاء الجنوبية» تحولًا لافتًا في استراتيجية المجلس، إذ يتجاوز الأدوات السياسية والعسكرية التقليدية نحو توظيف الدين في إدارة الصراع وبناء الشرعية.

وجاء القرار متزامنًا مع تصعيد عسكري وسياسي مستمر لقوات الانتقالي في وادي حضرموت والمهرة، ورفضها الانسحاب، بما يعكس سعيًا واضحًا لإضفاء غطاء ديني على تحركات المجلس وتأطير مشروعه الانفصالي ضمن قالب عقائدي يُقدَّم بوصفه غير قابل للمساومة.

ويثير تعيين نائب وزير الأوقاف والإرشاد، أنور العمري، رئيسًا للجنة، إلى جانب ضم مسؤولين حكوميين وشخصيات دعوية محسوبة مباشرة على المجلس، تساؤلات جدية حول طبيعة وأهداف هذه الهيئة.

فبدل أن تكون مرجعية دينية مستقلة للإفتاء وخدمة المجتمع، تبدو – وفق قراءات مراقبين – أداة سياسية تُسخّر لتكريس أجندة المجلس العسكرية والسياسية.

ويرى متابعون أن الخطوة تهدف إلى خلق «شرعية بديلة» أو «شرعية مضاعفة» لمشروع الانفصال، في ظل تحديات سياسية وإقليمية متزايدة. إذ إن نقل الخلاف حول مستقبل الجنوب من حيز السياسة إلى المجال الديني–العقائدي يُعمّق الصراع ويصعّب احتواءه، مع ما يرافق ذلك من مخاطر توصيف الخصوم بصفات دينية إقصائية.

وتزامن تشكيل الهيئة مع سجالات حادة على منصات التواصل بين رجال دين محسوبين على الانتقالي ووجوه دينية مستقلة، تجاوزت النقاشات الفقهية إلى تبادل اتهامات وصدور فتاوى إقصائية بحق خصوم المجلس، ما ينذر بتداعيات خطيرة على السلم الاجتماعي.

وفي خطاب المجلس، يُعاد تعريف «الدفاع عن الجنوب» بوصفه «واجبًا دينيًا»، ويُقدَّم القتال في هذا الإطار باعتباره فعلًا تعبديًا، بما يعزز التعبئة الشعبية ويحوّل التضحية العسكرية إلى قيمة دينية، ويمنح المجلس نفوذًا موازياً للسلطة المعترف بها.

وعليه يمكن القول:

إن إدخال الدين بهذه الكثافة في المشروع السياسي والعسكري للمجلس الانتقالي ينقل الصراع إلى مستوى أكثر تعقيدًا وخطورة. فحين تُلبَس الأهداف السياسية ثوب «الواجب الشرعي»، تتقلص مساحات التسوية، ويصبح التنازل السياسي مكلفًا أخلاقيًا وعقائديًا في نظر الأنصار.

هذا التحول لا يعزز فقط قدرة المجلس على التعبئة، بل يفتح الباب أمام صراع مؤدلج ذي طابع وجودي، يصعب احتواؤه عبر أدوات التفاوض التقليدية.

ومع هشاشة النسيج الاجتماعي في المحافظات الجنوبية، فإن تسييس الفتوى قد يُفضي إلى استقطاب حاد وانقسامات عميقة، تهدد الاستقرار المجتمعي وتضع المنطقة أمام مخاطر طويلة الأمد تتجاوز حدود الخلاف السياسي الراهن.

لذا نجد أنه في جنوب اليمن، يتجاوز الصراع اليوم مجرد تنافس سياسي أو مواجهات عسكرية عابرة، ليصبح معركة على الشرعية نفسها، على وعي الجماهير وقلوبها، وعلى الأطر العقائدية التي تُبرر القوة أو تجرّمها.

المجلس الانتقالي الجنوبي، لم يعد يكتفي بالسيطرة على الأرض، بل بدأ رسم «شرعية موازية» تمنح كل خطوة عسكرية أو سياسية غطاءً دينيًا، وتحوّل أي معارض إلى خصم ليس فقط سياسياً، بل عقائدياً.

هذا الانزلاق إلى الساحة الدينية ليس تكتيكًا عابرًا، بل استراتيجية مدروسة: توظيف الفتوى والأطر العقائدية لتعبئة قواعد شعبية بعمق، وتقديم التضحية العسكرية كواجب ديني، بحيث يصبح التسوية أو التراجع خيارًا مستحيلاً على مناصري الانتقالي.

في هذا السياق، كل تحرك، من تشكيل هيئة الإفتاء الجنوبية إلى إطلاق عمليات عسكرية في أبين وحضرموت، ليس مجرد حدث محلي، بل إعلان صريح عن تحويل الصراع السياسي إلى صراع وجودي، يحمل أبعادًا ديموغرافية واجتماعية قد تمتد تأثيراته لعقود.

اليمن اليوم يقف على مفترق طرق، حيث السياسة والدين والسلطة يتشابكون في خضم لعبة معقدة من النفوذ الإقليمي، وابتكار شرعية جديدة تفرض على الجميع قواعدها.

وما يجري في الجنوب لا يختزل مجرد صراع على السلطة، بل هو اختبار لقدرة المجتمع على الصمود أمام صراع مؤدلج يحاول الانتقالي فرضه على الأرض والعقل معًا.

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com