“تقرير خاص“| انسحاب الإمارات من اليمن بين الضغط السعودي وإعادة التموضع.. خطوة تكتيكية أم بداية صراع جديد..!
أبين اليوم – خاص
لم يعد إعلان الانسحاب الإماراتي من اليمن حدثًا عسكريًا معزولًا يمكن قراءته في إطار إعادة انتشار تقليدية، بل تحوّل إلى علامة فارقة تكشف انهيار البنية العميقة للتحالف الذي قاد الحرب منذ عام 2015.
فالقرار، بتوقيته وحدّته، جاء في لحظة اشتباك سياسي وأمني مباشر بين الرياض وأبوظبي، ما يجعله أقرب إلى فعل سياسي استراتيجي منه إلى إجراء أمني احترازي. هنا، لا ينسحب طرف من ساحة حرب، بل يعيد تعريف موقعه داخل معادلة نفوذ تتفكك من الداخل.
تتجاوز دلالات الانسحاب حدود اليمن إلى بنية التحالفات الإقليمية ذاتها؛ إذ يكشف بوضوح أن ما جمع السعودية والإمارات لم يكن رؤية مشتركة لمستقبل اليمن، بل تقاطعًا مؤقتًا للمصالح سرعان ما انهار عند أول اختبار حقيقي للنفوذ والسيادة. ومع انتقال الخلاف من الغرف المغلقة إلى البيانات الرسمية والمهل الزمنية والتهديدات العسكرية، بات اليمن ساحة تصفية حسابات بين حليفين سابقين، لا ساحة حرب ضد خصم واحد كما رُوّج لسنوات.
في هذا السياق، يبدو الانسحاب الإماراتي محاولة لفك الارتباط القانوني والعسكري المباشر، دون التخلي عن المكاسب التي راكمتها أبوظبي عبر شبكة نفوذ محلية متجذرة في الجنوب. وهو ما يفتح سؤالًا مركزيًا: هل نحن أمام خروج حقيقي، أم أمام انتقال من السيطرة المباشرة إلى إدارة الصراع بالوكالة؟
الإجابة عن هذا السؤال لا تحدد فقط مسار الصراع في جنوب اليمن، بل ترسم ملامح مرحلة جديدة عنوانها تفكك التحالفات، وصعود مشاريع متناقضة على أرض واحدة، في لحظة إقليمية شديدة السيولة، حيث لم يعد الانسحاب نهاية المعركة، بل شكلًا جديدًا من أشكالها.
خلفية المشهد:
أثار إعلان الإمارات سحب ما تبقّى من قواتها العسكرية من اليمن موجة واسعة من التساؤلات حول خلفيات القرار وتوقيته، لا سيما أنه جاء بعد ساعات فقط من إعلان رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي ووزارة الخارجية السعودية منح أبوظبي مهلة 24 ساعة لسحب قواتها من الأراضي اليمنية.
وجاءت المهلة السعودية على خلفية اتهامات مباشرة للإمارات بدعم قوات المجلس الانتقالي الجنوبي، التي تمكنت مطلع الشهر الجاري من بسط سيطرتها على محافظتي حضرموت والمهرة، في خطوة اعتبرتها الرياض تحديًا صريحًا لنفوذها في شرق وجنوب اليمن، وتهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
وفي بيان رسمي، أكدت وزارة الدفاع الإماراتية أن مشاركتها في اليمن منذ عام 2015 جاءت ضمن إطار التحالف العربي لدعم “الشرعية” ومكافحة “التنظيمات الإرهابية”، مشيرة إلى أنها أنهت وجودها العسكري رسميًا منذ عام 2019، ولم يتبقَّ لاحقًا سوى فرق متخصصة في مكافحة الإرهاب وبالتنسيق مع الشركاء الدوليين.
وأضاف البيان أن التطورات الأخيرة فرضت تحديات أمنية على مهام تلك الفرق، ما دفع الإمارات إلى إنهاء ما تبقى من وجودها العسكري “بمحض إرادتها”، بعد تقييم شامل لمتطلبات المرحلة، وبما يضمن سلامة عناصرها ويتماشى مع التزاماتها الإقليمية.
غير أن توقيت الإعلان، المتزامن مع تصعيد سعودي غير مسبوق، فتح الباب أمام شكوك حول مدى جدية الانسحاب، وما إذا كان خطوة لامتصاص الضغط السياسي والعسكري السعودي، أو مقدّمة لإعادة تموضع أكثر تعقيدًا داخل المشهد اليمني.
الخلاصة:
لا يبدو الانسحاب الإماراتي، في سياقه الزمني والسياسي، قرارًا نهائيًا بقدر ما يعكس محاولة لإعادة ترتيب الأدوار وتخفيف الكلفة المباشرة للصدام مع السعودية. فالإعلان قد يهدف إلى نزع الصفة الرسمية عن أي تحركات قادمة لقوات المجلس الانتقالي، مع الإبقاء على النفوذ الإماراتي عبر أدوات محلية تعمل بالوكالة.
وتشير القراءة الأوسع إلى أن أبوظبي لا تزال تعتبر جنوب اليمن ورقة استراتيجية يصعب التخلي عنها، ما يرجّح انتقال الصراع مع الرياض من المواجهة العلنية إلى صراع نفوذ أكثر تعقيدًا، يجمع بين العمل السياسي غير المباشر والتصعيد الميداني بالوكالة. وعليه، فإن خطوة “الانسحاب” قد لا تطفئ جذوة التوتر، بل تنقلها إلى مرحلة جديدة، أكثر غموضًا وأشد خطورة على مستقبل الجنوب اليمني وعلى تماسك التحالف الإقليمي نفسه.
تفكك التحالفات وإعادة رسم النفوذ الإقليمي:
عند تعميق قراءة الانسحاب الإماراتي وربطه بالإطار الإقليمي الأوسع، يتضح أننا أمام لحظة إعادة اصطفاف كبرى في الخليج والقرن الأفريقي، لا مجرد خلاف ثنائي حول ساحة يمنية. فاليمن، وخصوصًا جنوبه وشرقه، تحوّل إلى نقطة تماس بين مشروعين استراتيجيين مختلفين: مشروع سعودي يسعى لإعادة تركيز النفوذ عبر الدولة الشكلية والشرعية الدولية، ومشروع إماراتي قام منذ البداية على تفكيك الدولة لصالح كيانات محلية وظيفية تضمن التحكم بالموانئ والممرات البحرية دون كلفة الاحتلال المباشر.
إقليميًا، يتقاطع هذا الصدام مع تحولات أوسع في أولويات الرياض. فالسعودية، المنخرطة في مسار تهدئة مع إيران، وتسويات هادئة في الإقليم، لم تعد قادرة على تحمّل حليف ميداني يتصرف باستقلالية ويهدد بإشعال جبهات جانبية، خصوصًا في مناطق حساسة كحضرموت والمهرة المتاخمتين لحدودها المباشرة.
من هذا المنظور، لا يُقرأ الضغط السعودي على الإمارات بوصفه خلاف نفوذ فحسب، بل كجزء من استراتيجية أمن قومي أوسع تهدف إلى تحييد الشرق اليمني كمنطقة عازلة مستقرة، بعيدًا عن المشاريع الانفصالية أو الفوضوية.
في المقابل، تبدو الإمارات أقل انسجامًا مع منطق التهدئة الإقليمية. فشبكة نفوذها الممتدة من عدن وسقطرى إلى موانئ القرن الأفريقي لا تحتمل خسارة الجنوب اليمني دون كلفة استراتيجية عالية.
لذلك، فإن الانسحاب العسكري المعلن لا يلغي حضورها، بل يعيد إنتاجه بصيغة أكثر مرونة، تعتمد على الفاعلين المحليين، والغطاء السياسي والإعلامي، وربما على إدارة صراع منخفض الشدة يعرقل أي محاولة سعودية لإعادة توحيد القرار جنوبًا.
الأخطر في هذا السياق هو أن تفكك التحالف الخليجي في اليمن يفتح فراغًا إقليميًا متعدد الطبقات. فالقوى الدولية، من الولايات المتحدة إلى القوى البحرية الكبرى، تنظر إلى سواحل اليمن بوصفها جزءًا من أمن الملاحة العالمية، بينما ترى أطراف إقليمية أخرى في هذا الانقسام فرصة لإعادة التسلل إلى الجغرافيا اليمنية بأدوات جديدة.
ومع غياب مركز قرار موحد داخل المعسكر المناهض لصنعاء، يتحول الجنوب إلى ساحة مفتوحة لتقاطع مشاريع متناقضة، لا يحكمها منطق الدولة بل منطق الممرات والموانئ وخطوط الطاقة.
وعليه، فإن الانسحاب الإماراتي لا يمكن فصله عن لحظة إقليمية تتآكل فيها التحالفات الصلبة لصالح ترتيبات مرنة، مؤقتة، وقابلة للانفجار. اليمن، في هذا المشهد، ليس سوى المرآة الأكثر قسوة لهذا التحول: بلد يُعاد إنتاج أزمته كلما حاول لاعب إقليمي الخروج منها، ليكتشف أن الخروج ذاته أصبح شكلًا آخر من أشكال الصراع.
الدور الإسرائيلي والبحر الأحمر: من الخلفية الاستخباراتية إلى قلب الصراع:
لا يمكن فهم تسارع الأحداث في جنوب وشرق اليمن بمعزل عن الحضور الإسرائيلي المعلن، والذي أخذ يتقدم من الهامش إلى العمق مع كل اهتزاز في بنية التحالفات الخليجية. فكيان الاحتلال لا ينظر إلى اليمن كملف يمني، بل كحلقة مركزية في معادلة أمن البحر الأحمر وباب المندب، حيث تتقاطع خطوط التجارة العالمية، والطاقة، والمواجهة المفتوحة مع محور المقاومة. ومن هذا المنظور، يصبح أي فراغ أمني أو تفكك تحالفي فرصة استراتيجية لإعادة التموضع وتعزيز النفوذ غير المباشر.
خلال السنوات الماضية، بنى كيان الاحتلال حضوره في القرن الإفريقي عبر بوابات متعددة: علاقات أمنية مع إثيوبيا وإريتريا، تنسيق استخباراتي في الصومال، ونفوذ متصاعد في الموانئ المقابلة للساحل اليمني. هذا الحضور لم يكن منفصلًا عن الدور الإماراتي، بل تَقاطَع معه في الرؤية والأهداف، خاصة في ما يتعلق بالسيطرة على الممرات البحرية ومنع تشكّل أي قوة معادية قادرة على تهديد الملاحة الإسرائيلية أو كسر الاحتكار الأمني في البحر الأحمر.
في هذا السياق، يُقرأ المشروع الإماراتي في جنوب اليمن بوصفه جزءًا من هندسة إقليمية أوسع، تتلاقى فيها مصالح أبوظبي وتل أبيب حول إنشاء كيانات محلية منزوعة السيادة، لكنها شديدة الوظيفة: موانئ، قواعد، نقاط تحكم بحرية، ومناطق نفوذ مرنة قابلة للاستخدام الاستخباراتي والعسكري عند الحاجة.
ومع تصاعد المواجهة بين السعودية والإمارات، تخشى تل أبيب من أن يؤدي الحسم السعودي إلى إضعاف هذه الشبكة، أو إخراج الجنوب اليمني من معادلة “الأمن البحري المُدار” لصالح ترتيبات أقل قابلية للضبط. الأخطر أن البحر الأحمر بات اليوم ساحة مواجهة دولية مفتوحة، مع تصاعد العمليات العسكرية المرتبطة بغزة، وعودة باب المندب إلى صدارة الصراع العالمي.
وفي ظل هذا المشهد، يصبح الجنوب اليمني – من سقطرى إلى المهرة – عمقًا استراتيجيًا لأي مشروع إسرائيلي يسعى لتأمين خاصرته البحرية الجنوبية. من هنا، لا يُستبعد أن يكون التصعيد الإماراتي–السعودي، وما رافقه من انسحابات وإعلانات انفصال، جزءًا من مخاض أوسع لإعادة ترتيب النفوذ بما يضمن بقاء هذا العمق خارج أي سيطرة وطنية يمنية حقيقية.
وعليه، فإن إدخال العامل الإسرائيلي في قراءة المشهد لا يضيف بعدًا خارجيًا فقط، بل يكشف أن ما يجري في اليمن لم يعد صراعًا على سلطة محلية أو نفوذ إقليمي محدود، بل فصلًا من معركة أكبر على الجغرافيا البحرية الممتدة من خليج عدن إلى شرق المتوسط. وفي هذه المعركة، لا تُقاس الانسحابات بحجم القوات المغادرة، بل بمدى بقاء الشبكات، والوظائف، والأدوار.. وهي عناصر لم تغادر المشهد بعد.
وعليه يمكن القول:
في المحصلة، لم يعد ما يجري في اليمن قابلًا للفهم بوصفه أزمة داخلية أو حتى صراع نفوذ إقليمي تقليدي، بل أصبح تعبيرًا مكثفًا عن لحظة تفكك كبرى في بنية التحالفات التي حكمت الإقليم طوال العقد الماضي.
فالانسحاب الإماراتي، والتصعيد السعودي، والانقسام داخل أدوات السلطة، والحضور الإسرائيلي المتنامي في البحر الأحمر، كلها ليست أحداثًا منفصلة، بل حلقات في سلسلة واحدة عنوانها إعادة توزيع القوة على أنقاض الدولة اليمنية.
لقد تحوّل اليمن، وخصوصًا جنوبه وشرقه، إلى ساحة اختبار قاسية لمشاريع متعارضة: مشروع يسعى لإدارة الفوضى عبر وكلاء محليين وشبكات نفوذ عابرة للحدود، ومشروع آخر يحاول إعادة فرض السيطرة باسم الأمن القومي، ولو على حساب التوافقات السابقة. وبين المشروعين، تُسحق الجغرافيا اليمنية مرة أخرى، لا لأنها ضعيفة فقط، بل لأن موقعها بات أثمن من أن يُترك خارج حسابات الممرات البحرية والطاقة والصراع الدولي.
الأخطر في هذه المرحلة أن الانسحابات لم تعد تعني الانكفاء، بل إعادة التموضع، وأن إعلان القطيعة بين الحلفاء السابقين لا يعني نهاية الصراع، بل انتقاله إلى مستويات أكثر تعقيدًا، حيث تتداخل السياسة بالأمن، والاقتصاد بالاستخبارات، والانفصال بالوظيفة الإقليمية.
وفي ظل غياب مشروع وطني جامع، يتحول الجنوب اليمني إلى مساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، وإلى ورقة مساومة في صراعات تتجاوز اليمنيين أنفسهم.
وعليه، فإن المستقبل القريب لا يحمل مؤشرات تهدئة حقيقية، بل ينذر بمرحلة سيولة استراتيجية عالية، تتآكل فيها الكيانات المؤقتة، وتتصادم المشاريع تحت عناوين براقة تخفي جوهر الصراع الحقيقي: من يملك البحر، ومن يضبط الممر، ومن يتحكم بالجغرافيا حين تغيب الدولة.
وفي هذا المشهد، يبقى اليمن هو الخاسر الأكبر، ما لم تُكسر هذه الدائرة، ويُعاد تعريف الصراع من معركة نفوذ إقليمي إلى معركة سيادة وطنية، وهي معركة لم تبدأ بعد، لكنها وحدها الكفيلة بإنهاء هذا الانهيار المتعدد الطبقات.